معالجة كورونا لا تعالج الفالج

0

إن كانت ثَم فرصة لاقتراح مقولة تطير في الآفاق أو إمكانية إطلاق مَثَل تُسْتَخلص منه عبرة ويجري على ألسنة الناس لقلت: “لا تبتئس من فشل مصيبة في إعادتك لإنسانيتك لأنه ستأتي أخرى لتحاول!!”، ومهما كنت صاحب حظ فلن أحقق عُشر رواج وترسُّخ مقولة “فالج لا تعالج” فلنبق على المقولة الثانية كونها الأبدع والأسبق ولنكفّ عن اقتراح المُثل فلدينا في أدراجنا وعلى رفوفها ما يكفي منها لعدة إنسانيات وليس لإنسانية واحدة.

عبد الرحمن ربوع

شئنا أم لم نشأ؛ النظام العالمي المقبل عقب انتهاء جائحة كورونا “إنْ انتهت” مختلف بالكلية أو إلى حدٍّ ما عن النظام الحالي. هذه مقولة يرددها اليوم ويؤكد عليها كثيرون، ولها ما يؤيد صدقيتها وتنبؤيتها، فقد اكتشفت العديد من المجتمعات الإنسانية مدى هشاشة وفساد أنظمتها السياسية والاقتصادية والصحية وعجزها عن تلبية حاجاتها وتأمين احتياجاتها، كما اكتشفت الأنظمة نفسها ذلك وهي لامحالة في طور تلافي هشاشتها وتدارك انكشاف سوأة فسادها.

لقد منحت جائحة كورونا الإنسانية فرصة لمراجعة واقعها (واقع المعيشة، واقع السياسة، واقع الأنساق الاجتماعية والأخلاقية..) ودعتها لصياغة رؤية جديدة للمستقبل كما لم تفعل منذ ثلاثة قرون عقب اختراع القاطرة البخارية واندلاع الثورة الصناعية.
لقد أطلعتنا الجائحة على المواضع الجغرافية الأكثر هزالا على ظهر كوكب الأرض من حيث القابلية لانتشار جيل جديد وربما أجيال جديدة من الفيروسات المهددة للجنس البشري التي يمكنها إعادته إلى “حقبة السيف والترس” وربما “الجمع والالتقاط”، مع أنه فيروس ينتمي لعائلة فيروسية شرق-أوسطية إلا أنه تفشى في مطلع الشمس وداخل أسوار الصين العظيمة حيث الحكومة الأقوى والأغنى في العالم، ثم عبَر عبْر دبي واسطنبول إلى أوروبا ومنها إلى ما وراء بحر الظلمات ليغزو ديار العم سام مستغلا حقبة سياسية تعتبر الأكثر فظاظة وغوغائية في تاريخها.

لقد بيّنت لنا الجائحة أن الـG8 أو الـG20 وكل “الـGـات” ليست سوى “قلاع ورق”، وأن اقتصاداتها “المميكنة” المتحكم بها من قبل عائلات أو مغامرين ومقامرين لا يمكنها مواجهة وباء عالمي أو جائحة دولية أو على الأقل حفظ كرامة مصابين وضحايا جراء أزمة صحية وطبية.
أرتنا الجائحة بعضًا من أولئك المتأنّقين المتعالين الذين كان الناس يهتفون لبعضهم وينحنون لآخرين ويتوسلون ويتمنّون على بعضهم ليَقبلوا إيداعاتهم في بنوكهم ومساهماتهم في شركاتهم، رأيناهم خلال الجائحة يفرّون من المواجهة وتحمّل المسؤولية تاركين مؤسساتهم في مهب الريح ليلوذوا بقصورهم وقلاعهم المشيدة تاركين مرؤوسيهم وعملاءهم لمصير مجهول.

لقد أعادت الجائحة الاعتبار للعلم والعلماء والحكمة والحكماء، فقبل ثلاثة أشهر فقط لم يكن أحد ليقدر على التحدث إلى أحقر عسكري في أتفه جيش في بلد على هامش الجغرافيا وخارج التاريخ فضلا عن عسكري مرموق في أعظم جيش في بلد تقبع في بؤرة العالم ومركزه إلا باحترام وإجلال وتقدير وتبجيل مهما كانت درجة خيانته لأمّته أو نسبة عمالته للدول المعادية أو المنافسة لبلده. ومثل العسكري “الأمني”، مهما كانت نسبة فساده وعلاقته وتواطئه مع عصابات الجريمة المنظمة أو المجرمين المستقلين. ومثلهما السياسي، مهما كانت درجة حقارته ودناءته وانتهازيته ووصوليته.

لقد عاد الطبيب والممرض والعالم والباحث ليكونوا مواطنين لهم القيمة الاعتبارية الأولى في مجتمعات عصر الكورونا، ولتصير توجيهاتهم ونصائحهم محط استماع وإنصات، وليصبحوا كما كانوا في عصور وحقب النهضة والتنوير “النَزْرَة” محل تقدير لجهودهم وتضحياتهم.
لقد اكتشف كثير من الناس بفضل الجائحة أنهم ليسوا بحاجة إلى قواعد عسكرية أو مخافر شرطة أو ملاعب أو مراقص أو دور عبادة؛ بل بحاجة إلى مشافٍ ومبراتٍ ومدارسَ وجامعاتٍ ومراكز أبحاث ومعامل تحليل. ولكن إلى متى سيصمد هذا الاكتشاف، وهل ستسمح عصابات المال والأعمال والسياسة والأمن والعسكر بهذا الواقع الذي يجرّدها من مكتسباتها التي حققتها خلال آلاف السنين.
بطبيعة الحال لن يعي كثير من الناس الدرس رغم وضوحه وبساطته، لأن الشهوات والأهواء والعقد ستعاود الظهور ثانية في نفس اللحظة التي سيُعلن فيها انتهاء الجائحة وإحكام السيطرة عليها. ومع أن النظام العالمي سيُعاد بناؤه وسيُعاد ترتيب أولوياته بحسب ما يقول العديد من وجهاء الفكر والسياسة المشاهير؛ إلا أن ذلك لن يُراعي البتة شروط الإيثار والتعاون والتكامل والإنسانية وحسن الجوار وما إلى ذلك من بيديهيات الفضيلة والفروسية والنبل التي نشهدها اليوم؛ بل سيراعي مجددًا شروط القبح والتشويه والتلويث والنفاق والتقية والخِسة.

ولا يمكنني كما لا يمكن لأي ممن مازال يحتفظ بعقله، أو هكذا يظن، التفاؤل حيال عالم يحكمه أمثال خامنئي والأسد وما شابههما من متطرفين وقتلة ولصوص بنسب متفاوتة في الخطورة في عديد من دول العالم، خصوصًا وأنهم المنوط بهم قيادة التغيير المنشود لعالم ما بعد كورونا، وبالتالي واضح كيف سيكون شكل العالم الجديد وشكل نظامه الحاكم والمسيّر.

حتى الآن وقد أصيب مليونا إنسان ومات منهم أكثر من مائة ألف لم نر ولم نسمع، ولن، مسؤولًا أيًا كان موقعه أو مسماه الوظيفي أو طريقة وصوله سدّة المسؤولية إعلان استقالته أو على الأقل توكيل مهامه لخبير في إدارة الأزمات، وخصوصًا خبراء الأزمات الصحية والوبائية والحالات الاستثنائية الطارئة؛ بل إنهم وبكل تبجّح يخرجون عبر تلفزيوناتهم ليبشّروا أنهم مسيطرون أو على وشك السيطرة، مع إضافة ملاحظة صغيرة أن ما نعانيه من خوف وقلق سببه عدم التزامنا كما يجب بتعليماتهم وقراراتهم الحكيمة التي اقترحوها أو فرضوها.
عبدالرحمن ربوع

مشاركة المقال !

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.