ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.. أمل بواقع أفضل وغد أفضل، أمل بالتغيير، تغيير للمجتمع يبدأ بتطويره من القمة إلى السفح عبر كنس فساده وتطهيره من الاستبداد. يقول ابن حجر “في الأمل سر لطيف لأنه لولا الأمل ما تهنّى أحد بعيش ولا طابت نفسه الشروع في عمل، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه.. وسبب طول الأمل الجهل وحبّ الدنيا”. والأمل يحتاج لعمل ليترجم ويتحقق، وكسوريين عملنا وعملنا وعملنا متأمّلين بوطن مشيد وحكم رشيد، وفيما لم نصل لتحقيق هذه الغاية بعد لابأس من الإشارة إلى أن أكبر وأهم عقبة في الطريق كانت ما ألقيناه بأيدينا من عوائق وموانع تحبط العاملين وتوقف الفاعلين لأسباب شتى ليس أولها الحسد و”ضيق العين” وليس آخرها تقمّص دور الرّويبضة.
دماء حامية دبّت في عروق السوريين المتجلدة مع تدوينات مختصرة سطرها مؤخرًا باحث إسرائيلي تبشّر باقتراب نهاية عصر نظام الأسد، وتتوسّم خيرًا في وريث محتمل هو إعلامي معارض مشهور، لتندلع حرب تدوينات ومنشورات على مواقع التواصل والمنتديات ما بين مستهجن بنَزَق وموافق بحذر، ولتنطلق موجة إفاقات أطلقتها معرِّفات خاصة بشخصيات وأحزاب معارضة ومؤيدة كانت في حالة سُبات إجباري أو موت سريري لتذكِّر الجمهور بنفسها وتقول “نحن هنا”.
لم يستطع رهاب جائحة فيروس كورونا (كوفيد19) أن يمنع السوريين، المترقّبين لموتهم العشوائي المحتمل، وهم يتضرّعون للسلامة من الوباء، وأن يكونوا من نسبة الـ95% الناجية وليس من نسبة الـ5% الهالكة، من إطلاق بيانات نارية وصيحات مدوية تقبل/ترفض بشرى الباحث الإسرائيلي عن نهاية عصر النظام الحالي وبداية عصر نظام جديد، كما لم يستطع منعهم من الخوض في تفاصيل دقيقة رأوها لأول مرة أو لم ولن يروها مطلقًا في النظامين المتهاوي والمتصاعد.
عجائبية غريبة تبديها شريحة كبيرة من شعب بأكمله يتجرّع آلام الخروج من كل سياقات الحياة الكريمة والمنطق العقلاني والتاريخ الواضح والجغرافيا المستقرة ليشغل باله ببشريات أطلقها باحث مستشار صهيوني مجند احتياطيّا بجيش الاحتلال، كل مؤهلاته تنحصر في إتقانه للعربية واعتياد ظهوره على بعض القنوات الإخبارية التي تسوّق للرأي الآخر أو للجدل أو للإثارة ليروي للمشاهدين العرب المتسمّرين أمام شاشات قنواتهم الفضائية آراء وقرارات وخلافات حكّام الكيان الصهيوني في فلسطين والجولان المحتلتين.
ورغم وضوح السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا وضوح الشمس تحت شعار عدم التدخل والمراقبة عن بعد “نظريًا”، وتأييد بقاء النظام ولكن ضعيفًا فقيرًا مهمّشًا منبوذًا محاصرًا “عمليًا”؛ إلا أن كثيرًا من السوريين اعتبروا “البشرى” الإسرائيلية “غير الرسمية” إعلانًا تاريخيًا مفصليًا يطوي صفحة من تاريخ البلد امتدت لأكثر من نصف قرن ويأذن لبدء صفحة جديدة. ولا يبدو أن إسرائيل قد قررت بعد التخلي عن الأسد واستبداله فهذا لابد أن يقوله رئيس سابق في الموساد في مقال واضح في هاآرتس وليس مجرد باحث أو مستشار عبر فيسبوك وتويتر.
هذا فضلا عن مواصلة أصدقاء النظام الأوفياء لجهودهم ومساعيهم في دعمه وحمايته، وهؤلاء أثبتوا على مدى يقرب من عشر سنوات أنهم الأصدق والأوفى، في مقابل أصدقاء المعارضة الذين “قفلوا هواتفهم وغيّروا عناوينهم” وصاروا هم أنفسهم يتحسّسون رؤوسهم وكراسيهم. وفيما ينعم النظام بكل أسباب الحماية والاستقرار بل والرفاهية؛ تتلظى المعارضة في محارق التضييق والتهميش وغياهب النسيان والتعرض للجلد حتى من حاضنتها الشعبية وأقرب مقربيها.
وعلى الأرض يحوز النظام نصفي البلد والشعب بقوة الحديد الإيراني والنار الروسية، فيما لا تمون المعارضة على الجولاني أو عبدي السماح بزيارة إدلب أو الرقة. ومع نجاح النظام في استخلاص شعب “متجانس” يؤيده أو يرضى به صاغرًا مستكينًا؛ فشلت المعارضة حتى في استدرار تأييد شريحة مؤيدين وازنة في الفضاء الافتراضي. ليحظى النظام بطيب العيش وهدوء الجو وسط مؤيديه وداعميه، ولتفتقد المعارضة أدنى سبب للبقاء أو الاستمرار لولا بقية من عناد وإصرار على المطالبة بحق مشروع ومعترف به لولا أن الظروف لم تسنح بعد بنيله.
أما في الأفق فلا تبدو السماء حبلى بشيء يذكر، الجميع ينتظر تركيا أن تفي بالتزامها بالقضاء على المجموعات الإرهابية المتبقية في إدلب وتسليم المنطقة للجيش الوطني الذي يفترض به مفاوضة النظام ومساومته خلال الترتيبات الأخيرة لإنهاء الأزمة، وأن تمضي الولايات المتحدة الأمريكية بالتزاماتها قدمًا لتمكين حلفائها في المعارضة من أدوات مضارعة للنظام تمكنهم من مقارعته ومواجهته سياسيًا بعد كل ما حققوه “وسُلب منهم” عسكريًا.
وكل هذا غير بادية معالمه أو إرهاصاته على الأرض ولا حتى دخانه يبشّر أو يهدّد به في السماء. ليس قبل استقرار الأمور مطلع العام القادم لرئيس يأتي إلى البيت الأبيض سواء ترامب نفسه أو غريم له. وليس قبل أن تمرّ الجائحة على السوريين والعالم بسلام مكتفية بحصد أرواح عشرات الآلاف وليس بالقضاء على الجنس البشري كله.
وحتى ذلك الحين، من الطيش بمكان الاستعجال لطرح البديل أو حرق أوراق المواجهة والمساومة أو المغامرة بدخول محارق لا تُبقي ولا تذر من شخصيات أو كيانات أو تكتلات. فأمور السوريين لم تعد بأيديهم، وقد صاروا ألعوبة بأيدي دول وحكومات طامعة بأراضيهم وثرواتهم، ولها قواعد عسكرية ولوجستية مغروسة بجغرافيتهم، فضلا عن قواعد شعبية وجماهيرية معدّة بكل أدوات الأيديولوجيا المفرِّقة والمقسِّمة، ومجهّزة بكل عصبيات وتعصبات المواجهة لإطلاق المزيد والمزيد من الاقتتال على كومة الخراب أو ما تبقى من سوريا.
عبدالرحمن ربوع