كالعادة كلما ألمّت بالبشرية نائبة أو كارثة؛ تراوحت ردة فعل حكومات العالم إزاء جائحة فيروس كورونا بين الاعتراف والإنكار والمواجهة والهروب، ما كشف عن واقع مزْرٍ خصوصًا طبيًا وصحيًا لحال المجتمعات الإنسانية، كما كشفت عن سطحية وسذاجة وصلت حد السفاهة والعجز لقياداتها السياسية.
كانت أسهل خطئية ارتكبها كل مسؤول حول العالم تنطّع ليدلي بصريح رسمي هي اتهام الصين باختلاق الفيروس، ليس عن عمد؛ بل بسبب النظام الغذائي والظروف المعيشية والتعامل الحكومي. نظام غذائي يقوم على تناول أي كائن حي لسد الفجوة الغذائية التي تعاني منها الشعوب الصينية في ظل قلة الموارد الزراعية والحيوانية التقليدية، ونظم معيشية تقوم على استهلاك كل الطاقة البشرية واستنزافها لتعزيز القدرة الاقتصادية للدولة حتى على حساب صحة ومناعة المواطن المطحون في منظومة “اعمل بكل طاقتك وخذ قدْر حاجتك” وتعامل حكومي شابته في البداية الضبابية وفي النهاية السوقية.
مع اقترابنا من إتمام ثلاثة أشهر على وقوع الكارثة وعموم الجائحة لتطال كل أصقاع الكوكب وسط ركام مخيف من القال والقيل والقلنا؛ يبدو الأفق أسودًا، وإنذارات الخطر كلها حمراء في كل مكان، والجميع مستنفر “صدقًا” أو “ادعاءًا”، وسط ندرة في خطاب التوعية الملمّ بالقضية المدرِك لأبعادها وسبل الوقاية والعلاج بعيدًا عن صخب مَنْ يرهف بما لا يعرف.
ووصل الحدّ أن أطاحت بعض الحكومات والمجتمعات بميراث عظيم وتركة ثقيلة من الفكر الحر والعلماني ولجأت إلى نبش خطاب طمرته قبل قرون وتوجهت به لشعوبها أنْ لا منجا لكم اليوم إلا اللجوء إلى الله أن يسمع الدعاء ويرفع البلاء ويمنّ بالدواء. وبصورة معاكسة ومضادة أصدرت حكومات دول هشة تسودها أنظمة عسكرية مستبدة غارقة بالجهالة الممزوجة بالديانة والنفاق فرمانات تحذر من اللجوء للخالق القدير أن يتكرم بلطفه ويلطف بتكرّمه ويجنِّب البلاد والعباد مشاق وباء لا قِبل لهم به كونهم يتذيلون قائمة التحضر والمدنية، ومواردهم محجوزة سلفًا لتأمين سعادة ورفاهية سيادة الديكتاتور وحرمه المصون وأنجاله عباقرة الأمن والاقتصاد والمخابرات والرياضيات..
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه أطاح بأربعة قرون من التنوير وقرن من الحداثة، ودعا للجوء إلى الله وطلب رفع البلاء وإنهاء الوباء وتسهيل الدواء، كما بشّر بأن “الحداثة السائلة” المعاصرة انتهت إلى حقيقة أن “الله حق” وعلى مواطنيه وخصوصًا منتخِبيه أن يعمدوا إلى الصلاة ليجنّبوا أنفسهم تبعات عجز حكومتهم على الوفاء بحاجاتهم الطبية والعلاجية ويبحثوا عن خلاص صحي بمثل ما يبحثون عن خلاص ديني.
ففي زحمة الرهاب الذي يكتسح العالم وتعجز عن مواجهته كل غطرسة إنسانية حاولت يومًا أن تبني صرحًا للمدنية والتحضر والتقدم العلمي والتقني في شتى مناحي المعرفة وأقسامها وفروعها، وجدت الإنسانية نفسها أمام واقع قلة الحيلة وضعف الإمكانيات، وأن الأسلحة التي تسعى لاقتنائها وتطويرها لصد أي “هجوم فضائي” يتجرأ عليه سكان كوكب آخر لا نعلم له اسمًا أو موقعًا، لا تجدي نفعًا من هجوم فيروسي يتجرأ عليه أحقر كائن يُعايشنا على هذا الكوكب. وأن قلاع وحصون السجون والمعتقلات التي شُيّدت وبُنيت للتنكيل بالخصوم السياسيين والمجانين الإرهابيين، ولكتم أصوات تنادي بمُثل كالحرية والكرامة والمساواة، وما شابه من شعارت تخيف وترعب زمرة الطغاة المتسيدين معظم حكومات العالم، كان الأولى أن تكون قلاعًا للعلم والتعلم والبحث العلمي وحصونًا للطبابة والصحة.
أسلحة وحصون استنزفت موارد هائلة لم تُبقِ مجالًا لتطوير بيئة حياة صحية خالية من التلوث، أو لتجهيز سكن إنساني لائق صالح للعيش الكريم، أو شقّ شوارع وطرق تؤدي وظيفتها دون أن تقتل السائرين عليها. وبقراءة ومقارنة بسيطة وسريعة لما يُنشر أو يُسرّب من ميزانيات الدول سواء في المجتمعات “المتحضرة” أو “المتخلفة” نلحظ بوضوح كمّ السفه والخلل العقلي الذي يعانيه معظم قادة العالم وتورطت به معظم حكوماته. إنفاق لا محدود على وسائل الحرب والقتل والتعذيب سواء عسكرية أو أمنية تُقرّها حكومات سفيهة وتصادق عليها برلمانات صورية، فيما قطاع يُعنى بالصحة والطبابة أو بالتعليم والبحث العلمي يقبع في قاع قوائم الميزانية في المعظم الغالب من الدول حول العالم.
على العموم لم يكن وباء كورونا ليعيد البشرية إلى نطاق العبودية وحزام التسليم بوجود الله وطلب مساعدته، فقد تجاوزنا عقدين من هذا القرن الذي تنبأ له مفكرون وسياسيون كبار أنه سيكون “قرن الدين”، وبحسب ما بشّر آندريه مالرو قبل خمسين سنة وتوني بلير قبل اثنتي عشر سنة؛ حيث قال الأول: “القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الدين أو لن يكون”، فيما قال الثاني: “العقيدة الدينية سيكون لها بالنسبة للقرن الحادي والعشرين من الأهمية مثل ما للأيديولوجية السياسية في القرن العشرين”، فلا ضير من أن يقرّ ترامب بعجز تحضر وتقدم بلاده في مواجهة جائحة وبائية ويصارح مواطنيه أن يلوذوا بالله لأن إدارته أضعف من أن تقاوم أو تُحجّم الوباء.
ولأن السياسات المحلية والدولية يضعها بشر غير خارقين سواء كانوا مدنيين منتخبين أو جنرالات أو ورثة تم تنصيبهم في مقاعدهم بالقوة والغصب أو المصادفة، ولأنها تقرّها مؤسسات سياسية وتنفيذية سواء كان على رأسها مدنيون أو عسكر؛ فإنها تخضع لضغوط وتنطلق من أولويات وتتعامل مع ممكنات والمتاحات، وشتان بين نمطي التفكير واتخاذ القرار بين قادة مدنيين وقادة عسكر أو قادة بالمصادفة.
ففيما يخضع عدد من قادة العالم حين بناء استراتيجياتهم واتخاذ قراراتهم، سواء بالمطلق أو في هذا الظرف الذي نواجه فيه جائحة كورونا، لآليات السوق ولوبيهات الضغط والتأثير والتمويل، وبعضها ذات مصالح في تسويق بعض من منتجاتها سواء الرائجة أصلًا أو الراكدة سابقًا. أو يخضعون لمنطق المؤامرة الذي يحرك رؤيتهم إزاء كل تصرّف أو ظرف يقع حولهم أو تجاههم كونهم بالأساس متآمرين على من سلفهم، ولم يصلوا سدة الحكم أو المنصب الوظيفي إلا بحبك مؤامرة أو “طق برغي”. أو أنهم من الجهل والخبث “معًا” ليدَّعوا أن كل شيء على ما يرام في “مزرعة الذين خلّفوهم”، وأنْ الموضوع في إطار السيطرة والاحتواء وعلى الشعب أن يحمد الله على نعمة القائد الملهم الذي استطاع بحنكة واقتدار السيطرة على الوباء وتحجيمه والقضاء عليه حتى قبل أن يتجرأ ويتعدى حدود البلد “المزرعة”.
إنه امتحان تاريخي نخوضه جميعًا ولا مجال فيه للانتقام أو التشفي، ولا وقت لذلك أصلًا فيما مطلوب منا “الاستعداد لتوديع أحبّتنا”، إنه ثمرة قرون من جرائم الاستبداد والفساد شارك في إثمها معظمنا، سواء من ساهم عامدًا في ارتكاب هذه الجرائم، أو غير عامد لأنه منتفع وإنْ بالحد الأدنى، أو سكت ورضي واستسلم، أو قاوم وعاند وتصدى ولكن خلط مقاومته بما يفشلها من أنانية وغباء وضيق أفق.
عبد الرحمن ربوع