إلى متى سيصمد أبو مازن ؟!

0

التقيت السيد الرئيس محمود عباس ( أبو مازن ) بعد أكثر من عام على اندلاع الثورة السورية في زيارة رسمية استقبل خلالها وفدا من تيار التغيير الوطني، في مقر إقامته في القاهرة، وبغض النظر عن الحفاوة والتواضع والطيبة التي لمسناها منه، فقد حظيتُ باهتمامه لمّا عرف أنني ناشط أنظّم وأشارك بتنظيم مظاهرات واعتصامات النشطاء السوريين والجالية السورية في مصر، ومنحني نصيحة من رجل قضى عمره مناضلا أن لا يتوقف أبدًا ما نقوم به؛ بل نكثفه وننوعه بمختلف ألوان الحراك الشعبي السلمي مع الحرص الدائم على استمالة جماهير جديدة ومتعاطفين جدد مع قضيتنا.

عبد الرحمن ربوع

بطبيعة الحال لم تعد السلطة الفلسطينية ذلك الداعم أو المساند الكبير والقوي للمعارضة السورية منذ أكثر من أربع سنوات، رغم ما لعبته من أدوار في صياغة مبادرات دولية عقلانية وعادلة لحل الأزمة السورية، شأنها شأن العديد من الأنظمة العربية التي جمدت دعمها للمعارضة والثورة أو غيّرت بوصلتها باتجاه الإرادة الأمريكية التي تريد إنهاء الأزمة السورية عبر تغييرات شكلية في النظام السوري دون المساس بالدولة العميقة خشية أن يتحوّل هذا النظام من عصابة تكتفي بإرهاب وقتل وتشريد السوريين ونهب ثرواتهم الطبيعية والشخصية إلى عصابة دولية يكتوي العالم كله بفظائعها وإرهابها.

البارحة، وخلال رد الرئيس عباس الوطني والمبدئي والجسور والمعهود على الإعلان الأمريكي الإسرائيلي لمبادرة السلام الترامبية “صفقة القرن”، بالتأكيد مجددًا على الرفض القطعي لها وتحريضه كل القوى السياسية والعسكرية والشعبية الفلسطينية للوقوف صفًا واحدًا لمواجهة هذا الاقتراح الصلف المتعجرف، وإشارته إلى برنامج عمل وخطة طريق لحشد كل الجهود بما فيها الدولية للمواجهة..

تذكرته وهو يلقي عليّ نصائح مشابهة لأرى مجددًا كيف تكون مواقف رجال المبادئ متطابقة ومكررة مهما تباعدت الأوقات واختلفت الظروف.
لكن.. ما هو مؤكد بالنسبة لي ولكثيرين أن أبو مازن أو أي قائد فلسطيني لن يستطيع الصمود طويلًا في هذه المواجهة التي تقودها واشنطن ويسير في ركابها النظام العالمي، بما فيه النظام العربي، فقضية فلسطين العادلة معدومة الدعم إلا من جمهور يتناقص يومًا بعد يوم بفعل آلة الإعلام الجهنمية التي نجحت إلى حد كبير في تجريد القضية من هويتها الإنسانية ثم هويتها الإسلامية ثم هويتها العربية وحصرها بالهوية الفلسطينية وأن المسلمين والعرب “بالذات” لا علاقة لهم بها إلا إنْ أرادوا أن إيصال دعم “مالي محدود ومقنن” للسلطة الفلسطينية المعترف بها “حتى الآن” كممثل وقائد للشعب الفلسطيني الموجود “فقط” ضمن الحدود المسموح له بالتواجد فيها داخل أرضه الطبيعية والتاريخية والقانونية، والتي قد لا تزيد عن عشرة في المئة من أرض فلسطين، التي أصبحت محتلة ومرسّخٌ احتلاها بحكم الأمر الواقع على مدى أكثر من قرن.

ومن المؤكد، لمن ينظرون بعين الواقع لا بعين الأمل أو عين ترقب معجزة أو حتمية تاريخية قريبة تخسف بالواقع السياسي الدولي والعربي وتنهيه وتقيم نظامًا مغايرًا أو على الأقل أحسن حالًا وأفضل واقعًا، أن أبو مازن لن يصمد هو أو من بعده (كما أشار هو شخصيًا البارحة) طويلًا كما لم يصمد سلفه ومن سبقهما، فالرجل يحمل مسؤولية وهمّ “شعب يريد الحياة ويستحقها”، ومهما أعلن هذا الشعب استعداده للتضحية في سبيل استعادة وطنه، ومهما عملت قيادته على تحقيق هذا الهدف، فإن النتيجة محسومة ومحتومة. بضعة ملايين من الناس المحاصرين المسلوبين كل أسباب القوة أو أسباب الصمود لا يمكنهم مواجهة نظام عالمي لديه كل إمكانيات القضاء المبرم على هذه المجموعة المشاغبة والمسببة للصداع.

الخطة الأمريكية المعلنة بكامل “تفاصيلها الشيطانية” بالتأكيد ليست حلا يخدم الفلسطينيين فهي تُقرّ بذلك صراحة؛ بل هي معالجة تخدم “العالم المتحضر” الذي يريد إنهاء “الصداع الفلسطيني الإسرائيلي”، ومقاربة تطوي ملف دولة إسرائيل كدولة يهودية يتخلص فيها هذا العالم من صداع مظلومية اليهود باحتجازهم مجدّدًا في معسكر إيواء، لكنه معسكر اختياري وانتقائي، مع تكليفهم أيضا بمهمة استراتيجية كمركز إنذار مبكر للغرب في الشرق الأوسط أو كقاعدة متقدمة لجيوش “أروبان التاسع”، بالإضافة إلى مهام أخرى بينها لعب دور “الشماعة” التي يعلق عليها النظام العربي أسباب فشله السياسي والاقتصادي والتنموي بداعي المقاومة.

ويبدو ترامب والنظام العربي الدائر في فلكه وفق الخطة المقترح فرضها، بالترغيب والترهيب معًا، أنه يعرف مصلحة الفلسطينيين أكثر منهم، وعنادهم وإصرارهم على مبادئهم التي يروها عادلة ومنصفة لم يعد مقبولًا من الإدارة الأمريكة، التي كانت ومازالت سبب نكبات المسلمين والعرب بما فيهم الفلسطينيين خلال قرن مضى، كما أشار أبو مازن أمس، باعتبارها أول من طرح وسعى لإصدار وعد بلفور وبلورته واقعًا على الأرض عبر أكثر من مائة عام قادت فيها أمريكا الغرب عمومًا لإسقاط الخلافة الإسلامية وإنشاء كنتونات إسلامية وعربية هشة وهزيلة لضرب عصفورين بحجر: تحقيق هدف الغرب بالقضاء على الدولة الإسلامية التي تجرأت يوما وأقصته عن عرش السيطرة؛ بل واقتحمت عقر داره. بالإضافة إلى عدم السماح لإيجاد فرصة قيام مثل هكذا دولة، وأيضا التخلص من اليهود التوّاقين لتحقيق حلم استعادة قيام “دولة داوود” بإجلائهم للأبد عن أمريكا وأوروبا وتسريحهم على العرب يعضّون ببعضهم فيما ينعم الغرب بنقائه وصفائه المسيحي.

لكن.. سواء بقي أبو مازن ثابتًا على موقفه المبدئي أو قبِل مرغمًا، حرصًا على شعبه وقضيته من مواجهة غير متكافئة بالمرّة، أو ذهب وجاء زعيم آخر يحمل راية المواجهة إلى أن تنتصر هذه القضية العادلة؛ كلها احتمالات واقعية تدعو للتفاؤل ومواصلة العمل. كما احتمال أن النظام العربي الحالي المهادن والخانع لا يمكنه إماتة أو دفن هذه القضية حيّةً هو احتمال قائم؛ بل مؤكد، فهذه القضية لها حامل ديني فرضه اليهود وحلفاؤهم في مواجهة المسلمين لسلبهم السيطرة على فلسطين باسم التوراة والإنجيل، ومهما حاولوا هدم أو إضعاف أو تحريف الحامل المقابل فهو باق وغير قابل لما يسعون لفرضه عليه لأنه دين مليار ونصف مليار إنسان على ظهر هذا الكوكب، ومهما كان وضع هؤلاء المليار ونصف السياسي والعسكري ضعيفًا ومزريًا حاليًا فهو “وضع مؤقّت” لأنها ببساطة سنّة الحياة وديدن أطوارها المتقلبة بين الضعف والقوة والقوة والضعف في دور لا متناهي اعتدنا عليه ونوقن به.

(أروبان التاسع اسم كنائي لبابا مستقبلي قد يظهر وقد يحيي مشروع أروبان الثاني الذي أرسل أول حملة صليبية إلى فلسطين عام 1095).

عبدالرحمن ربوع

مشاركة المقال !

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.