من حق كل إنسان أن يستغل ويستهلك أي شيء ممكن استغلاله واستهلاكه لتحقيق غاياته والوصول إلى مراميه بشرط أن تكون تلك الغايات والمرامي مشروعة أخلاقيا، وأن تكون هذه الوسائل أيضًا مشروعًا اللجوء إليها، وليست محرمّة دينيًا أو مسموحًا بها عرفيًا أو ممنوعة قانونيًا.
وبحسب هذا المبدأ الطبيعي المعتاد تستغل الطبقة السلطوية والحاكمة في الدولة كل ما يمكنها استغلاله لتثبيت تسلطها وحاكميتها على ما تحت أيديها من شعب وثروات وإمكانيات هذا الشعب، تحت شعارات برّاقة ومُثل عليا ووعود وردية بغد أفضل ومستقبل أشرق..، ولأن هذا غير ممكن بدون “لف ودوران” واحتيال و”اغتيال” غالبا ما تكون النتيجة معاكسة على الشعب والمتسلطين عليه سواء بسواء.
ولا يمكن إغفال دور النخب من كل المجالات كوسيلة يمكن استغلالها أيّما استغلال لصالح النخبة الحاكمة أو الطامحة للحكم، وأهم هؤلاء النخب على الإطلاق “النخبة الدينية”، “أولياء الله” و”الموقعون عن الله” و”وورثة الأنبياء”.. أسماء وألقاب كثيرة لمن ارتقى فوق أعناق الناس في بيوت الله يعِظون وينصحون ويوجهون ويأمرون وينهون بأمر الله ونهيه، وهي مهمة يشكرون عليها طالما ترشد جموع المؤمنين إلى سبل الرشاد وتهديهم طرق الخلاص سواء في الحياة أو بعد الممات، لكن أن يستغلوا هذه المكانة الاجتماعية وهذا الدور الخدمي ويوظفوه لصالح تعزيز وتوطيد نفوذ النخبة السياسية الحاكمة، وهي أحيانًا أو في أحيان كثيرة نخبة فاسدة مجرمة مخربة عميلة متآمرة.. فهذا ما يستحقّون عليه الهمز واللمز بل والغمز أيضًا.
لقد كانت ومازالت هذه النخبة الدينية، المنافقة والعميلة والأجيرة للنخبة السياسية، مستحقَرة في أنظار مواطنيها، وحتى في أنظار الأجيال التالية، حيث يستمر الاحتقار لهذه النخبة حتى بعد انتهاء دورها وزمانها، لما ترتب على أخطائها وجرائمها من نتائج لا تخصّ عصرها فقط، بل والعصور اللاحقة، والويل كل الويل إن كانت تنافق وتعمل لصالح أعداء الأمة ومستعمري الوطن.
ومن أسباب احتقار هذه النخبة الدينية في المنظور الشعبي التقييمي والقِيَمي ليس فقط مخالفتها لتعاليم الدّين التي تحضّ على إفشاء العدل وتحرّم من تسيُّد الظلم، وتؤكد على ترسيخ النزاهة وتشدد على استنكار الفساد، وتدعو إلى تطبيق الشورى وتحذر من تفشي الاستبداد؛ فرأينا ونرى هذه النخبة تسوّق للظلم على أنه محض العدل، وتبيح الفساد كأنه قمة النزاهة، وتتغنى على وقع سياط المستبد على ظهور المظلومين، وكأنه واجب إنساني وتاريخي يستحق الشكر والمدح؛ بل لكونها أيضًا تفننت بتحريف كلام الله وكلام الرسل ليواطئ رغبات الحكام والمستبدين كما لم يفعل أعتى أدعياء النبوة وأحقر المبتدعين الزنادقة، وأكثر من ذلك أيضًا بتأليف واختراع كلام ونسبته إلى الله والرسل وهم منه بُرآء.
روى ابن مفلح المقدسي في كتابه الآداب الشرعية أن مهنا بن يحيى الشامي سأل أحمد بن حنبل عن إبراهيم بن الهروي، فقال عنه: “رجل وسخ”!، فقال مهنا: ما قولك إنه وسخ؟ (يعني ماسبب نعتك له بوسخ؟) فقال ابن حنبل: من يتبع الولاة والقضاة فهو وسخ!. لقد وسّخ العلماء والدعاة والمصلحون الاجتماعيون والمثقفون أنفسهم وتاريخهم بالعمل لصالح من يحكم ويقضي على الناس بالظلم والعدوان، أو يستغل منصبه لخدمة نفسه وحاشيته وحلفائه على حساب الشعب والمصلحة العامة للوطن.
ويروي ابن حنبل أيضًا خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمّته “من كلّ منافق عليم اللسان” و”الأئمة المُضِلون” الذين يحرّفون الدّين لصالح غرض دنيء، ولصالح أشخاص أدنياء، همّهم التسلط على رقاب الناس، وغرضهم مصّ دمائهم واستباحة حيواتهم وأعراضهم، وبالتالي فهم شركاء في الجريمة، وشركاء أصلاء، فهم من أسس وقنن وشرعن مسيئًا للأمانة التي يحتملها، وليس هناك جريمة أكبر من جريمة طبيب نتجت عن إساءته للأمانة والثقة التي منحها له مريضه، أو جريمة محام نتجت عن إساءته للأمانة والثقة التي منحها له موكله، أو جريمة إمام نتجت عن إساءته للأمانة والثقة التي منحها له المؤتمّون به.. أو جريمة أب أو أم تجاه أبنائهما، أو جريمة أبناء تجاه آبائهم أو أمهاتهم..
بالأمس أعيد نشر مقطع مصور للداعية الأمريكي حمزة يوسف خلال ندوة له بمدينة سامسون التركية قبل ثلاث سنوات، يسخر فيه من ثورة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد وترديدهم شعار “الشعب السوري مابينذل”، فأكد على أن خروج السوريين ضد الأسد حرام في دين الإسلام، وهاهم السوريون يذلون أنفسهم بالبحث عن وطن يلجأون إليه والبحث عن لقمة عيش لهم ولأطفالهم في المخيمات والطرقات..
وحمزة يوسف شيخ ذو شعبية كبيرة لدى المسلمين بسبب كونه مسلمًا آمن بتعاليم الإسلام عن قناعة بعد دراسة وبحث، ونقل تجربته لكثير من المسلمين وغير المسلمين فاقتنعوا بكلامه وأحبّوه حتى صار رمزًا يُشار له بالبنان وقدوةً يُسار خلفه باطمئنان، وقد استشهد خلال المقطع المصور بمقولة “من أذلّ السلطان أذله الله” وهي تحريف لمقولة منكرة مروية عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قِبَل رُواة مجاهيل ومناكير ومدونة في كتب لا يصحّ الاستشهاد بها، بل مدونة في الكتب التي تحذر من المرويات الضعيفة والمشكوك بصحتها من الأساس، وهذه المقولة هي “ما مشى قوم، أو ما من قوم مشوا، أو إنّ أول فرقة تسير، إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا، أو يوم القيامة”، وقد رواها كل من عبد الرزاق والبزار والمحاملي وابن شبّة في المصنَّف والمسند والأمالي وتاريخ المدينة.
كما روى ابن أبي عاصم عن معاوية بن أبي سفيان (وياللمصادفة) أنه قال: لما خرج أبوذر الغفاري إلى الربذة لقيه ركب من أهل العراق (وياللمصادفة أيضًا) فقالوا يا أباذر قد بلغنا الذي صنع بك فاعقد لواءًا يأتك رجالٌ ما شئت، فقال مهلاً، مهلاً يا أهل الإسلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “سيكون بعدي سلطان فأعزوه. من التمس ذله ثغر ثغرة في الإسلام ولم يقبل منه توبة حتى يعيدها كما كانت”.
فهذه المقولة وإن صحّت، وهي ليست كذلك، فلا يجوز نسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي من كلام الصحابة أمثال حذيفة ومعاوية، وهما من الصحابة الذين لا يسمحون بالخروج على الحاكم، مع أن معاوية نفسه يعتبر أول خارج على حاكم المسلمين عندما رفض بيعة علي بن أبي طالب الذي بايعته نسبة كبيرة من المسلمين في المدينة؛ بل إنه حارب عليًّا حتى انكسر له، ثم ساوم الحسن بن علي على الحكم وانتزعه منه.
وهنا يحضرنا ما نقله الإمام ابن رجب الحنبلي قبل أكثر من 600 عام في شرحه لعلل الترمذي عن أبي بكر الخطيب: “أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب عليهم اهتمامهم بكتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من رواية المجروحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنَبًا، والثابت مصدوفًا عنه مطَّرحًا، وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين.
وأكثر من ذلك أن هؤلاء ممن ينتسبون للنخب الدينية المنقبين عن “كنوز” الأحاديث النبوية المكذوبة المنكرة ليس لهم غير هذه البضاعة ليدللوا بها على أطروحاتهم التي تخدم أولياء نعمتهم من نخب السلطة والاستبداد.
ولكن ما شأن حمزة يوسف باستبداد بشار الأسد؟ وكيف يقول ذلك في تركيا مع أنه أمريكي؟ ولماذا استدعاء مقولته التي قالها قبل ثلاث سنوات اليوم؟ إن حمزة يوسف اليوم مستشار في الإدارة الأمريكية أي أنه من النخب الدينية التي صار لها حظوة عند النخب السياسية الأمريكية، وهذه النخب في طريقها اليوم لإعادة الاعتبار لبشار الأسد والاعتذار منه نيابة عن “العالم المتحضر” بعد ثماني سنين من التآمر “المعلن” عليه.
طبعا لن يتم ذلك على الفور؛ بل في القريب العاجل (سنتان أو ثلاثة) على أطول تقدير إذا ما استمرت الإدارة الحالية (إدارة دونالد ترامب).
وفيما تقود النخب السياسية الأمريكية العالم اليوم بما في ذلك النخب السياسية العربية والإسلامية؛ فإن النخب الدينية الأمريكية العاملة في فلك النخب السياسية الأمريكية تقود أيضًا النخب الدينية في البلاد العربية والإسلامية وتوجِّهها، وكما يستمع ملوك العرب ورؤساؤهم باهتمام لنصائح أصدقائهم في البيت الأبيض أو الكرملين أو الإليزيه أو باكنغهام، فلا أقل من أن يفعل بالمثل دعاة السلطان ومفتو البلاط ومشايخ الرز بحليب.
بقلم: عبدالرحمن ربوع