منذ عام 1987 إثر الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي بدأ اعتماد مصطلح “المقاومة” كمسمى لمرحلة جديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لوقف المد الاستيطاني والمحافظة على ما تبقى من الأرض بدعم عربي وإسلامي ودولي للحقوق التاريخية المشروعة في مواجهة غزو بربري وتغيير ديمغرافي ممنهج ومتواصل لصالح مستوطنين صهاينة على حساب أهل البلد وسكانها الأصليين.
بطبيعة الحال تغيرت جغرافيا التحالفات السياسية الفلسطينية والعربية منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، إلى أن وصلت حدا غير مسبوق في مجافاة العقلانية والمنطق، إلى درجة أصبح أعداء الأمس الذين قتلوا البشر واغتصبوا الحجر أصدقاء محتملين بل واقعيين. ومع ازدياد وتعمق علاقات الإسرائيليين بالغرب والروس صاروا أقرب إلى حلفائهم العرب الذين يفترض بهم دعم أشقائهم الفلسطينيين في صراعهم للتحرر والاستقلال.
لكن جغرافيا السياسة وما يطرأ عليها من تحولات شيء وثبات مبدأ المقاومة شيء آخر، فالأولى مجموعة من المواقف تتبدل وتتغير بتبدل الظروف وتغير الأحوال، وهي مواقف تقبل المساومة والتفاوض، في حين تبقى المقاومة مبدأ مغايرا لمنطق المواقف، لأنها خيار شعب يعاني الاحتلال وطريق حتمي لا مناص منه لنيل الاستقلال.
منذ مطلع عام 2012 وتحديدا في شهر شباط/فبراير أعلنت حركة حماس عن “خروج” من سوريا سببه رفضها إعلان موقف رسمي مؤيد لنظام بشار الأسد، ومع أن النظام كان ومازال يتغنى بدعم المقاومة الفلسطينية إلا أنه وجد نفسه مضطرا خلال معركته المصيرية ضد الشعب السوري لتخيير حماس وغيرها من فصائل المقاومة بين دعمه وإعلان تأييده أو الرحيل عن سوريا ومغادرتها، لتعمد حماس وأخواتها إلى إمساك العصا من المنتصف فلا تؤيد طاغية ضد شعبه الذي كان ومازال أكبر داعم للمقاومة، ولا تُحرم من دعم داعميه “الإيرانيين” الذين أصبحوا أكبر وأهم داعمي الحركة وأخواتها وخصوصا ضد حركة فتح المدعومة عربيا.
ومع أن كلا من حركة حماس أو إيران لا تخفيان علاقتهما الاستراتيجية الممتدة منذ أكثر من ثلاثين عاما، وإن شابتها أحيانا فترات برود أو مراحل فتور رافقت علاقات المد والجزر بين حماس والعرب أو إيران والعرب، ورغم إعلان الحركة أنها تنأى بنفسها عن سياسة المحاور التي تتحكم بعلاقات المنطقة وتصبغ توجهاتها؛ إلا أن ذلك غير ممكن واقعيا كونها تتأثر بالتجاذبات الحاصلة بين العرب أنفسهم أو بين العرب والإيرانيين.
وحتى إن رغبت أو قررت الحركة الابتعاد عن حصر نفسها ضمن أي محور إلا محور المقاومة الفلسطينية الموازي لمحور “ادعاء” المقاومة الذي تتبناه فصائل أخرى مدعومة من إيران ومرتبطة بها عضويا كحزب الله اللبناني وقوة القدس “الحرس الثوري الإيراني” ومليشيا الحوثي.. إلا أن حماس تجد نفسها محسوبة بشكل أو بآخر على هذا المحور خصوصا عندما تمد يدها لإيران طلبا للمساعدة المالية التي حرمها منها العرب للوفاء بالأعباء الاقتصادية والخدمية المنوطة بها كونها مسيطرة على قطاع غزة الذي يضم مليون وثمانمائة ألف نسمة، ولا تتلقى أي دعم عربي رسمي يذكر حاليا، بسبب الضغط العربي والدولي على حماس لإبرام مصالحة وطنية مع حركة فتح والقيادة الفلسطينية في الضفة الغربية.
ومع أن البعض يبرر لحماس، أو هي تبرر لنفسها، براغماتيتها السياسية تجاه إيران على حساب أشقائها في الأنظمة العربية الذين يخوضون صراعا وجوديا مع إيران، تحت شعار بناء “علاقات متوازنة من أجل شعبنا وأرضنا وقدسنا وقضيتنا العادلة”؛ إلا أن حماس وجمهور مؤيديها يغفلون قضية جوهرية أن المقاومة مبدأ وموقف، مبدأ ثابت لا يفترض به التغيّر أو التلوّن، وموقف بطولي لا يفترض به التقهقر والتدهور خصوصا إن كان الدافع أو المبرر ماليا.
فحركة حماس التي تدعي أنها حامل فلسطيني رئيسي للواء مقاومة المحتل الإسرائيلي؛ عليها أن لا تغفل أن أشقاءها العرب (الذين كانوا ومازالوا داعميها وداعمي النضال الفلسطيني الرئيسيين والأساسيين) هم الآن في محنة وكرب خطير سببه إيران ونظام الملالي في طهران، وهم (أي قادة حماس) يرون بأم العين ما آلت إليه العراق في ظل الاحتلال الإيراني من خراب وفساد، وما آلت إليه سوريا بعد كل المجازر التي نفذتها ورعتها إيران ضد الشعب السوري (أكبر وأقوى شعب عربي داعم للمقاومة) لصالح نظام بشار الأسد، وما فعلته وتفعله إيران في اليمن لصالح مليشيا الحوثي التي انقلبت على الشرعية وتسببت بأكبر كارثة إنسانية في العالم، وما تهدد به إيران أمن واستقرار دول الخليج العربي وتصريحات رموزها وقادة المليشيات التابعة لها تجاه العرب والمسلمين والمقدسات في مكة المكرمة والمدينة المنورة..
إنها براغماتية غير مبررة على الإطلاق مهما حملت شعارات إنسانية ونضالية براقة، فالعجز عن الوفاء بالالتزامات المعيشية لسكان قطاع غزة لا ينبغي أن يُلجئ قادة حماس إلى المتاجرة بالقضية واستجداء عدو على عدو، بل يفترض به التنازل للأشقاء والاتفاق مع الأصدقاء وعدم المكابرة والابتعاد عن السير في طريق كله فخاخ ولا تعرف نهايته وإن كانت بوادره لا توحي بنهاية سعيدة وآمنة بل على العكس فكل المؤشرات تنبئ بنهاية وخيمة ومخزية.
إنها نهاية يتوقع أن تكون أشبه بنهايات أبناء الملك العادل سيف الدين أبو بكر أحمد الأيوبي (الكامل والمعظم والأشرف والأوحد) الذين مارسوا أسوء أنواع البراغماتية السياسية ضد بعضهم البعض بعد أن ورثوا الدولة الأيوبية وتآمروا علنا مع ألد أعداء الأمة والدولة في سبيل الاحتفاظ بعروشهم واستحواذ كل منهم على عرش الآخر ودولته، بل وتسابقوا في إبرام معاهدات “الانتداب” والاستجلاب مع الصليبيين، ليفوز كبيرهم “الكامل” أخيرا بلقب مبرم صفقة التنازل عن القدس وعشرات غيرها من مدن وقلاع وثغور الشام ومصر. وسبب ذلك ليس غيرتهم وحقدهم وتنافسهم مع بعضهم فقط، بل استشعارهم بعض الخطر وبعض الفتور من أقرانهم من الملوك في بغداد وخوارزم، فآثروا التحالف مع العدو الصريح على التقارب مع الصديق المحتمل.
وما يعانيه العرب اليوم من مشاعر تجاه حماس وما تمارسه من سياسات تقربها من إيران لا يختلف كثيرا عما عاناه أسلافهم إبان حكم الأيوبيين، وعبّر عنه ابن الأثير المعاصر للأحداث فقال “استعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه”، وقال المقريزي “اشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان، واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار..” ولكن دون جدوى لأنه رأى أن ما فعله كان ضرورة ليستتب له الملك ويأمن غدر إخوته وجيرانه وأنه بمصادقة الامبراطور فريدريك الثاني الذي كان أكبر غرض له بالمبيت في القدس أن “يسمع أذان المسلمين وتسبيحهم في الليل” فيما أقرانه من أمراء ونبلاء يعيثون في البلاد قتلا وسبيا للبشر وتدميرا للحجر وحرقا للشجر.
سبع سنوات قضتها حماس صامتة إزاء ما تقوم به إيران في الدول العربية، وإن كانوا قبل عامين قد أعلنوا أن العلاقات مع إيران عادت إلى سابق عهدها قبل 2011، وخلال الشهر الجاري زار وفد من الحركة طهران برئاسة نائب رئيس المكتب السياسي، صالح العاروري، واجتمع مع المرشد علي خامنئي وتبادلا تصريحات الإشادة، العاروري يشيد بالدعم الإيراني لحركته، وخامنئي يشيد بصمود الحركة ومقاومتها “الباهرة” المدعومة إيرانيا.
وسبق أن برر “صراحة” عضو المكتب السياسي لحماس، موسى أبو مرزوق، التقارب مع إيران بسبب “تخلي كثير من الدول العربية عن المقاومة الفلسطينية”، مشيرا خلال مؤتمر صحفي عقده على هامش زيارة أجراها وفد من الحركة إلى موسكو، إلى أن الحركة تجد نفسها مدفوعة “لتعزيز علاقتها مع طهران التي تعتبر من أكبر داعمي الحركة ماديا وعسكريا وسياسيا خلال السنوات الماضية”، وأن “توجّه حماس نحو تعزيز علاقتها مع إيران خطوة دفاعية تهدف لحماية المقاومة”، في مقابل “تحالف أمريكي إسرائيلي عربي يهدف لإسقاط المقاومة الفلسطينية”.
إنه كلام بعيد نسبيا عن الحقيقة وفيه زجّ لتأويلات شخصية ضمن وقائع ميدانية، صحيح أنه يوجد تحالف أمريكي إسرائيلي لإسقاط المقاومة الفلسطينية، لكن لا دور عربي جدي أو واسع أو ملموس ضمن هذا التحالف، وإن كان هناك قلة من الأنظمة العربية تبدو منضمة لهذا التحالف، ولكن ذلك شكلي وإعلامي استرضاءا للأمريكي الذي يراد منه أن يضغط على إيران لكف أنشطتها المزعزعة لهذه الأنظمة، مع التأكيد الدائم والمستمر على عدالة القضية الفلسطينية ودعم كفاح الشعب الفلسطيني، ولكن ليس شرطا عبر حماس وأخواتها بل في إطار توافق فلسطيني شامل.
فالعرب الذين يخوضون صراعا “شرسا” مع إيران لن يقبلوا أن ينحاز فريق يتخذ من “المقاومة” مبدأ ومنهاجا سياسيا وعسكريا ويرتمي في أحضان إيران بحجة أنها تقدم له دعما ماليا يساعده على الاستمرار في التحكم والسيطرة على قطاع غزة، فيما الدعم ممكن ومتاح وأكبر إن تخلى هذا الفصيل عن ادعاء الاستئثار بالمقاومة واتخاذ القطاع رهينة، وإن كان الدعم العربي مشروطا بالتوافق بين كل الفصائل الفلسطينية؛ فالدعم الإيراني مشروط باستمرار الإنقسام كما أنه مشروط بالتقارب مع الأسد، ومشروط بأن تنضم بندقية المقاومة الفلسطينية إلى بنادق بقية “المقاومات” الإيرانية ضد أشقائها العرب.
وإن كانت حماس وغيرها من فصائل المقاومة تعلن أن أساس علاقاتها الدولية “المتوازنة” هو فقط استجلابا لدعم القضية الفلسطينية، وأنها لا ترمي نفسها في حجر دولة على حساب دولة أخرى؛ إلا أن ذلك غير ممكن حاليا في ظل الاستقطاب الشديد في المنطقة والحساسية الشديدة ضد إيران من قبل الدول العربية، خصوصا إن كان الدعم الحالي يأتي في إطار استمرار نفوذ وسيطرة حماس على قطاع غزة مع صعوبة أو استحالة تقديم أي مساعدات عسكرية كما تدّعي حماس، كما أن طبيعة النظرة العربية الحالية إلى إيران ومن تتحالف معه أو يتحالف معها يصب مباشرة في خانة العداء للعرب والتنكّر لمّا قدموه سابقا ويقدموه الآن وما يمكن أو يتأكد تقديمه في المستقبل لدعم القضية الفلسطينية ودعم نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.