رهانات إسرائيل الخاسرة في سوريا

0

أعتقد أنه لم يكن هناك أحد أسعد من بشار الأسد بشعار “الأسد أو نحرق البلد” إلا بنيامين نتنياهو الذي رأى أن حرف الثورة السورية عن مسارها السلمي لتتحول إلى حرب أهلية فرصة لن تتكرر لتحييد هذا البلد، التواق شعبه لتحرير أرضه المحتلة، من قائمة مخاوف إسرائيل واحتمال اندلاع مواجهة مستقبلية إن تغيّر النظام الحاكم في سوريا وجاء نظام آخر وطني شعبي بطريقة ديمقراطية.

لم يقف المسؤولون الإسرائيليون مكتوفي الأيدي وهم يرون تصاعد وتيرة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية ضد النظام في كل المدن والبلدات السورية، فظلوا يراقبون عن كثب معززين حدودهم بفرق عسكرية وأسلحة إضافية، فضلا عن مناقشة الأمر مع كل مسؤول دولي التقوه، ليس مع اندلاع الثورة السورية بل مع اندلاع الربيع العربي قبلها بشهور، مشددين على احتواء أي تغيير سياسي يقع في البلدان العربية، وخصوصا دول الجوار مصر وسوريا بالإضافة إلى اليمن حيث باب المندب لأهميته الاستراتيجية والتجارية، للإبقاء على حال “اللاحرب واللاسلم” بين العرب والإسرائيليين المستمرة منذ أكثر من أربعة عقود على ما هي عليه.

ليجد نتنياهو فرصة عظيمة فيما فعله النظام السوري بإطلاق سراح المعتقلين المتطرفين وتسليحهم للقضاء على الجيش السوري الحر وكتائب الثوار وتهجير النشطاء المدنيين واحتلال المناطق المحررة، لتتحول الثورة الشعبية ضد النظام على مدى أكثر من عامين إلى حرب يخوضها النظام ضد الإرهاب الذي يخشاه العالم ولا يسمح بتمدده مهما كان الثمن، حتى وإن كان على حساب حياة ومستقبل شعب أو على حساب مبادئه المتحضرة القائمة على أسس حقوق الإنسان وإرادة الشعوب الحرة.

وسوّق نتنياهو للتخويف من المتطرفين متجاهلا أن الأسد هو من أطلقهم من السجون والمعتقلات خلال الأشهر الأولى للثورة السورية، بل دعمهم بشراء النفط ومشتقاته والمحاصيل الزراعية منهم، بل باعهم الأسلحة وسلمهم مستودعات ضخمة منها، كما فعل قرينه في العراق “نوري المالكي”، ليظهر تنظيما القاعدة والدولة الإسلامية ويسيطران على معظم المناطق المحررة ويشرعا في تأدية دورهما في حرب الإرهاب التي رسمها وخطط لها نظام الأسد وحلفاؤه.

ومع أن تحذيرات نتنياهو للغرب وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية من دعم فصائل المعارضة بعد ظهورها بعد عدة شهور من الثورة والاحتجاجات السلمية، كونها غير منضبطة ولا يمكن التنبؤ بتصرفاتها اللاحقة على سقوط النظام وانهياره، لم تكن منطقية ولم تجد تأييدا قويا، إلا أن ظهور القاعدة والدولة الإسلامية عزز حجة نتنياهو بوقف دعم المعارضة وغض النظر عن دعم النظام من قبل حلفائه العلنيين.

وقد أثبتت الأيام غلط الرؤية الإسرائيلية مع اندماج معظم فصائل المعارضة في العملية السياسية سواء في جنيف أو أستانة، وحتى الرافضة منها علنا لهذه العملية فهي ملتزمة بها ضمنًا، ورأينا مؤخرًا كيف اشتبكت هيئة تحرير الشام “هتش” مع حركة أحرار الشام الإسلامية في قلعة المضيق لأنها خرقت “اتفاق سوتشي” بالرد على اعتداءات قوات النظام المتكررة والمتواصلة على مناطق سيطرة المعارضة.

كما أن فصائل المعارضة، بالإضافة إلى تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، لم تهدد يوما إسرائيل؛ بل النظام من فعل عبر أبواقه والمتحدثين باسمه من رامي مخلوف إلى وليد المعلم إلى أحمد حسون وغيرهم، كما لم تقتحم هذه الفصائل الحدود يوما فيما وقعت حادثة “تهديدية” يتيمة بعد أكثر من عام على اندلاع الثورة عندما اندفع المئات من الشباب المؤيدين للنظام عبر الحدود “لتحرير الجولان بصدورهم العارية”. ومع تواجد تنظيمي القاعدة والدولة لسنوات في القنيطرة ووادي اليرموك لم تسجل حالة اعتداء واحدة ضد إسرائيل، بل كان هناك تنسيق “إنساني” بين الطرفين سمح بإدخال مساعدات غذائية وطبية وتلقي الجرحى العلاج.

ولاحقا ركز نتنياهو على التواجد الإيراني في سوريا قرب الحدود مع إسرائيل، رغم كل التطمينات الإيرانية الرسمية، العلنية منها أو المرسلة عبر موسكو، بأن إيران ومليشياتها لم ولن تستهدف إسرائيل من سوريا لا في الماضي ولا الحاضر ولا في المستقبل، وأن طهران وتل أبيب في خندق واحد ضد “الإرهاب” المتمثل بفصائل المعارضة كما تتوهمه وتسوّق له طهران ودمشق وتتفق معهما فيه تل أبيب. ومع ذلك سمحت إسرائيل لروسيا بتمرير اتفاق درعا والقنيطرة واستبدال فصائل النصرة والدولة الإسلامية والجيش الحر بقوات النظام المحكومة والمدارة من قبل جنرالات الحرس الثوري فضلا عن المليشيات الإيرانية التي تغلغلت وتخندقت لتعزيز سيطرة النظام على أهالي المنطقة.

ومؤخرا وخلال الحملة الانتخابية في إسرائيل، حظي نتنياهو وحزبه بإشادة خصومه قبل مؤيده، أنه تجنب التشابك في المنافسة بين نظام الأسد والمعارضة، وتحذيره الغرب والحلفاء من فصائل المعارضة والمجموعات المتشددة التابعة للقاعدة والدولة الإسلامية، وأنه استطاع احتواء التواجد الإيراني في سوريا وردعه وإقصائه بعيدًا جدًا عن الحدود، بالإضافة إلى التعامل مع الروس ببراعة وتجنب المواجهة معهم بل تعاون معهم لتحقيق كل ما تريد إسرائيل من سوريا.

ولكنها إشادة لامنطقية ولا يستحقها وستكون نتائجها كارثية على نتنياهو والإسرائيليين من حيث لا يدرون، خصوصا مع تفاقم أزمة الحصار والعقوبات الدولية على إيران وسوريا وعلى روسيا أيضا، وربما تكون “النافذة الإسرائيلية” طوق نجاة وحيد عبر توجيه تهديد حقيقي لإسرائيل لابتزاز واشنطن وأوروبا لفك هذه الحصارات ورفع هذه العقوبات.

عندما حذر نتنياهو الغرب (المتردد أصلا) من دعم المعارضة والتسبب بإحداث فراغ سياسي في سوريا، لن تستطيع المعارضة المعتدلة ملأه، لم يكن تنظيم القاعدة موجودًا ولم تولد الدولة الإسلامية بعد، بل إن غضّ إسرائيل الطرف عن التدخل العسكري الإيراني ثم الروسي القوي ضد المناطق التي تسيطر عليها المعارضة وفصائلها المعتدلة هو ما أدى لظهور هذا الفراغ وعزز سيطرة تنظيمي القاعدة والدولة اللذين تُركا يكبران ويتمددان على حساب الفصائل المعتدلة التي كانت تتلقى الضرب فيما ترك التنظيمان إلى أن أصبحا قوة استدعى القضاء عليها قتل عشرات الآلاف وتشريد ملايين المواطنين السوريين وتدمير مئات المدن والحواضر السورية وكل ذلك لصالح الأسد وحلفائه الإيرانيين.

وعلاوة على ضرب وحصار وتفكيك فصائل المعارضة بتشجيع إسرائيلي، لم يفتقد تنظيم الدولة والجماعات المتطرفة الأخرى الأسلحة الثقيلة التي حصلوا عليها من نظام الأسد الفاسد نفسه باستخدام مصادر تمويلهم الخاصة (حقول النفط والغاز والتجارة مع النظام وفرض الضرائب والعقوبات المالية على المواطنين في مناطق سيطرتهم)، فيما لو تم السماح بتزويد فصائل المعارضة بالأسلحة المناسبة والكافية في الوقت المناسب لاستكمال الثورة، لكان وجود تنظيمي القاعدة وداعش في سوريا مستحيلا، وكان من شأنه على الأقل أن يحسّن احتمالات ظهور قوى أقل سوءا ويمكن احتواؤها.

ملمح آخر من ملامح التخبط الإسرائيلي في سوريا يمكننا استشفافه من استقالة رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي “غادي أيزنكوت” المفاجئة في كانون الثاني/يناير الفائت، والذي يبدو أنه كان غير قادر على العمل وفق استراتيجية نتنياهو القائمة على إقصاء فصائل المعارضة من درعا والقنيطرة وإعادة الجيش العربي السوري والتعامل بكل حزم وحسم مع أي تواجد إيراني في المنطقة، وإغفال عنصر مهم في الموضوع وهو أن هذا الجيش، أو ما تبقى منه على الأقل، مُدار من قبل الخبراء الإيرانيين ويأتمر بأمر قادة إيرانيين، وأن هذا الجيش لا يمكن التنبؤ بتصرفاته عندما تصل حدة الضربات الإسرائيلية للمواقع العسكرية الإيرانية في سوريا حد الإيجاع، عندما يصبح “القط” الإيراني محشورا بالزاوية ومهددًا بالفناء بفعل العقوبات الاقتصادية والحصار الدولي ومحتاجا للهروب عبر “النافذة” الإسرائيلية وتهديد الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بإسرائيليها “المدللة”.

إن مراهنة نتنياهو على أن التواجد الإيراني في سوريا يمكن التعامل معه وأنه تحت السيطرة مراهنة خاسرة، فتواجد إيران لا ينحصر بمئة ألف مقاتل جاؤوا لحماية استثمارات طهران في نظام الأسد، فهناك شبكات اقتصادية ودينية لم تتوقف عن العمل قبل الثورة أو بعدها، بل زادت وتضخمت وأصبحت تمتلك موطئ قدم دفعت مقابله أموالًا طائلة وأرواحًا غالية، ومن المستبعد التخلي عنه تحت ضغط ضربات جوية أو صاروخية “محدودة” أو اغتيال قائد هنا وآخر هناك بين الحين والآخر.

أيضا مراهنة نتنياهو على روسيا كحليف مرحلي هام لأمن إسرائيل في سوريا لا يمكن التنبؤ بنتائجه أو تحولاته المفاجئة، فروسيا لا تستطيع الضغط على إيران للخروج من سوريا فشتان بين القوتين على الأرض (1:20) على الأقل، كما أن استجلاب بضع فرق عسكرية “مسلمة” بين القوات الروسية لمنح هذه القوات فرصة للاندماج بالمواطنين والتقرب منهم واستدرار تعاونهم وتعاطفهم لا يمكن مقارنته بالتغلغل الإيراني المتمثل بالعناصر العراقية واللبنانية التي تقودها وتسيّرها في سوريا وهي عناصر متعطشة للبقاء فيها، فضلا عن اختلاف طبيعة التحالفين بين نظام الأسد وإيران من جهة وبين نظام الأسد وروسيا من جهة أخرى.

فالتحالف بين نظام الأسد وإيران تحالف استراتيجي ومصيري كما وصفه بذلك الروس أنفسهم، فيما التحالف مع روسيا مصلحي ومرحلي باعتراف الروس أيضا، فلطالما كرروا أنهم ليسوا ضد التغيير في سوريا وأن الأسد لا يمثل خطا أحمر على عكس الإيرانيين، فكيف لنتنياهو أن يراهن على الروس وبقائهم في سوريا لضمان أمن إسرائيل ومنع إيران من تجاوز حدودها المرسومة إسرائيليا في سوريا؟!.

لقد كان من شأن ترك الإسرائيليين نظام الأسد لمصيره الذي يحدده الشعب السوري أن يدمر حجر الزاوية في التواجد الإيراني الروسي المقلق في سوريا، ولكنهم بدلاً من ذلك قدموا ضمانة أمنية للأسد ضمنت بدورها موطئًا دائمًا لكل من إيران وروسيا في سوريا.

إنها رهانات خاسرة كما هي رهانات العديد من الدول المتدخلة في سوريا، والتي عملت على مقاومة إرادة الشعب السوري في التغيير وحرفها بطريقة تحقق لها مصالحها فلم تحقق شيئًا، بل تورطت بنتيجة معاكسة لما تريد لتدفع ثمن أخطائها، وإن كان ثمنًا بخسًا مقابل ما دفعه هذا الشعب في سبيل تحقيق إرادته وطموحاته.

عبد الرحمن ربوع

مشاركة المقال !

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.