التعددية ناموس الكون الذي نعيش فيه وميزان الطبيعة التي تحيط بنا، حتى أشكالنا وسحناتنا متعددة ومختلفة، ويستحيل فيها التطابق والتماثل، وإن كان بالإمكان وجود بعض التشابهات بنسب متفاوتة لا ترقى للكلية أو حتى لجزء صغير منها.
وفضلا عن التعددية الطبيعية البديهية التي أدرك كنهها وجمالها وضرورتها علماء وحكماء، ومازالوا يفعلون، “وهو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات، والنخل والزرع مختلفًا أكله، والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقّه يوم حصاده، ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين”، ثمّة تعددية إنسانية “ومن آياته خلق السماوات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين”، تعددية في الأعراق والثقافات وتعدديات لا حصر لها تُثري المجتمعات الإنسانية ولا تُفقرها وتجعلها “ضاجّةً” بالحياة.
بعد عشرات القرون سادت فيها صراعات “بني إنسان” وحكم الامبراطوريات وأنظمة الكولينالية والعرقية، ومع انحسار نسبي لهذه الصراعات والأنظمة بدأنا ندرك كمّ الجمال والفائدة من كوننا متنوعين ومختلفين ومتعددين، خصوصًا بعد آخر تجاربنا “المفجعة” في تسلط الفاشية والنازية والشوفينية أواسط القرن الماضي، والتي مازالت أضرابها “القِزْمِيَّة” تتحكم هنا وهناك في دُويلات هامشية فاشلة، وتجاربنا “المرعبة” مع ظواهر الزنجوفوبيا والعربفوبيا والكردفوبيا والإسلامفوبيا.. منذ قرون وحتى يومنا هذا، وما نتج عنها من ظهور تنظيمات سرّيّة كـ”كو كلوكوس كلان” وغيرها ليتنبًّه مفكرون كـ”هوراس كولين” ويبتدع مصطلح “التعددية الثقافية” 1924، ويدقّ ناقوس صحوة إنسانية، داعيًا لتقبل المخالفين والاندماج معهم لخير وسعادة واستقرار المجتمعات متعددة الأعراق والإثنيات، وإلا فمصير المجتمع التفكك والاضمحلال واندلاع ثورات وحروب أهلية تأكل الأخضر واليابس ولا تُبقي ولا تذر.
وتقوم التعددية الثقافية، كما التعددية الطبيعية، على أساس التنوّع والتعايُش، أو الاختلاف والتعاون، كما تقوم على مبدأي الاعتراف والضرورة، “الاعتراف” بالآخر “المختلِف” شريكًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، و”ضرورة” الانسجام والتلاحم معه، وهذا الاعتراف فرض وواجب وطني وليس مِنحةً أو تنازُلًا، كما أن هذه الضرورة عامة ومطلقة وليست خاصةً بفئة معينة أو مقيدةً بحاجة طارئة.
وتطبيقًا على الحالة السورية فقد طفت على سطح الواقع حاجة إلى اعتماد التعددية الثقافية أساسًا لتمثيل الحراك الشعبي والثورة منذ اندلاعها ربيع 2011 في مواجهة “شوفينية” النظام وغلوّه وتعصّبه وعنجهيته في التعامل مع معارضيه والثائرين عليه، واعتماد هذه التعددية لم يكن منّةً أو منحةً من فئة لأخرى، لأن الجميع شارك وبذل وضحّى في الثورة على هذا النظام، ولكن.. ولكن بعد ثماني سنوات من العمل السياسي خلال الثورة وقبلها في ربيع دمشق وإعلانِها مطلع الألفية، وقبلها البعيد بعد الاستقلال 1946 وما قبله بقليل، وتجارب عديدة ومتوالية، لم يتبلور بعد مفهوم التعددية كما لم يكتمل تطبيقه ولم تنضج تجاربه، فضلا عن إساءة استخدامه أو استخدامه بطريقة مشوَّهة وفَجّة تُفقده المصداقية والفاعلية.
عندما يُنادى بالتعددية الثقافية “التمثيلية” في المؤسسات والهيئات السياسية، ويتم تبنيها كونها ضرورة وطنية، يجب أن لا يغفل التحكم بها وضبطها لوقاية من أخطارها هي نفسها المهددة للحياة والاستقرار والتنوع الطبيعي والثقافي والحضاري في حال ما إذا أظهرت وجهها المتعصّب اللئيم. فهي لا تعني قبول المخالف وإشراكه في الاستحقاقات الوطنية أيًّا كان لمجرد كونه مخالفًا أو فريدًا من نوعه، لأنه سيتوالد حينئذ مخالفون متعددون جدد بطريقة لا نهائية، ما يؤدي إلى إحباط وإفشال أي مشروع وطني لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها الحاكمة وفق مبدأ العدالة التمثيلية ومنطِقيَّتها.
وقد جرّب السوريون ذلك مرارًا عندما شرعوا بتأسيس هيئات وتجمعات سياسية لتوحيد كيانات وجهود المعارضة وفصائل الثورة وتنسيقياتها، وكلها باءت بالفشل الذريع لأنها بُنيتْ على أسس محاصصة تعددية لامنطقية ولاواقعية، حيث تمّت إضافة عناصر لافاعلة، بل مخرّبة ومفشّلة فقط لإكمال “ديكور” التعددية. وأذكر في آب/أغسطس 2011 عندما اجتمعنا (مجموعة من النشطاء من عدة محافظات) في الرمثا للعمل على أو محاولة تشكيل مجلس/كيان تمثيلي للثورة، كانت لدينا عدة اعتبارات للتمثيل من ضمنها “التنسيقيات” الميدانية، ومع بداية عملنا كان هناك ما يقارب الثلاثين تنسيقية “رسمية” أو أكثر بقليل، ولم نكد نُتمّ أسبوعنا الأول من الأعمال التحضيرية حتى أصبحت أكثر من ثلاثمئة!، فضلا عن اقتراحات قُدِّمت بأسماء “وطنية” عفا عليها الزمن أو تعتكف في “مطلع الشمس” أو “مغربها” منذ سنين “بلا حسّ ولا خبر ولا أثر”، فقط لتكون “بَهارًا” تعدديًا يسمح لهذا المجلس/الكيان أن يُستثاغ ويرى النور، حتى إنْ وُلد ميْتًا أو عاش مُعاقًا وعاجزًا.
لقد أدى التطبيق العبثي والكيفي لمبدأ التعددية الذي وافق عليه جميع السوريين واعتمدوه كصبغة لتجمُّعاتهم إلى ظهور سرطانات سياسية وتضخّمات عرقية وإثنية قاتلة أو على الأقل مثبّطة لأي عمل وطني من شأنه أن تكون نتيجته حلا للأزمة ومنطلقًا لإعادة بناء أو تشييد ما فاتهم بناؤه لعقود، لقد تضخمت الوِحدات المجتمعية والسياسية رغم ضآلة العديد منها حتى صار لكل منها عضوًا (وأحيانًا كتلةً) في كل حزب أو تيار أو تجمّع سياسي، وبلغت الغرابة أو الطرافة ببعضها ليكون ممثل أقصى الأحزاب يمينية يساري “معتّق”، وعضو لجنة “نزاهة” فاسد “مخضرم” كان في يوم من الأيام سببًا في “انجلاط” بعض الوجهاء العصاميين لشدة جشعه وعظيم افترائه وحقير ابتزازه.
هذه التعددية العبثية ذات المفهوم السوري الفريد من نوعه صارت اليوم معيار أساس التمثيل السياسي الذي يُفترض به حل “الأزمة السياسية” المستعصية على الحل، وكأن مبدأ الحل بأزمة أقل استعصاءًا يَصْلُح وينجح في حل أزمة مستعصية، كما نجح في الطب على يد ابن سينا الذي ابتدع “العلاج بالداء” وفق مبدأ أبي نواس الأحوازي: “وداوني بالتي كانت هي الداء”. ولكن ما أفسده الدهر لا يصلحه عطار، وإنما يصلحه “حلاق”، فما أفسده “النظام” للتربة السياسية التي يفترض أن تطرح غِلالًا وثمارًا تنفع هذا الشعب وتلبي حاجاته وطموحاته لا يُصلحه العمل بمثل ما عمل من تمثيل صوري شكليّ في جبهة تقدمية أو مجالس تصفيق شعبية وتطبيق “التعددية بالمقلوب”، وإنما تصلحه “الحلاقة الناعمة” لكل هذا الموروث المتهالك الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه على مدى نصف قرن من تسلط العبث/البعث وتسلط الفرد/الطائفة المطعّم بتعددية صُوْريّة.
عبد الرحمن ربوع