منذ أواخر عام 2011 والخطاب الإعلامي المتعلق بما اصطلح على تسميته بـ”الأزمة السورية” يتكلم عن “الحل السياسي”، فيما لا حل على الأرض إلا ما يُسمع صوته من رصاص وغارات وقصف وما يدب عليها من وقع أقدام مجندي جيوش ومليشيات وفصائل. قبل ما يقرب من ثمانية أعوام وتحديدا يوم الأحد 16 تشرين الأول/أكتوبر 2011 منح وزراء الخارجية العرب خلال اجتماع طارئ في القاهرة مهلة 15 يوما للنظام السوري لبدء حوار مع المعارضة يحل “الأزمة المتفاقمة في البلاد”، كما شكلوا لجنة وزارية هدفها التواصل مع النظام لوقف “أعمال العنف” في سوريا، كما طرحت الجامعة العربية لاحقا وبالإجماع مبادرة للحل قضت ببدء حوار بين المعارضة والنظام لتشكيل حكومة وطنية لإنهاء “الأزمة”.
هكذا تم تسمية عشرات المجازر التي كانت أخبارها تتواتر يوميا على يد قوات النظام ومليشياته من باب فتح الباب للحوار مع النظام الذي رفض كل المبادرات العربية و”المهل” التي منحت له لخفض التصعيد وكف يد الجيش عن قصف المدن والبلدات الثائرة في سوريا على مرأى ومسمع من “لجنة المراقبين العرب” والإفراج عن السجناء والمعتقلين من السياسيين والنشطاء وبدء حوار مع المعارضة أيا ما كان سيفضي إليه ذلك الحوار.
ورغم موافقة النظام على كل ما طرحته جامعة الدول العربية حتى منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2011، إلا أن لا شيء تغير على أرض الواقع من قمع ممنهج واستهداف بكل أنواع الأسلحة الثقيلة للمدن والبلدات الثائرة، ليتم تعليق عضوية سوريا بالجامعة، وإحالة الملف للمجتمع الدولي “الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي”، لفرض حل بموجب الشرعة الدولية، وهو ما تعثر الوصول إليه حتى بعد سبع سنوات شهدت مئات الجلسات والمداولات، وأربعة مندوبين أممين، وتسعة مؤتمرات دولية في جنيف وحدها، فضلا عن مؤتمرات دولية أخرى شهدتها عواصم عربية وأوروبية مختلفة، يضاف إلى ذلك بيانا جنيف 1 و2 وقرارات مجلس الأمن الدولي وعلى رأسها القرار 2254 الصادر عام 2015.
ومع كل هذا العقم والعجز عن “الحل” ظهر مسار أستانة مطلع العام 2017 برعاية الدول الثلاث الأكثر تدخلا في سوريا (روسيا وتركيا وإيران)، بناءا على بيان مشترك لوزراء خارجية هذه الدول في 20 كانون الأول/ديسمبر 2016 وقرار مجلس الأمن الدولي 2336 لنفس العام، بهدف إطلاق محادثات بين النظام والمعارضة لـ”تثبيت وتقوية نظام وقف إطلاق النار بما يساهم في تقليص العنف والحدّ من الانتهاكات وبناء الثقة وتأمين وصول المساعدات الإنسانية تماشيا مع قرار مجلس الأمن الدولي 2165 لعام 2014، وإنشاء آلية للمراقبة ومنع وقوع استفزازات بما يسهل قيام عملية سياسية لحل الأزمة السورية”.
ومع عملانية هذا المسار “ميدانيا” إلا أنه لم يسفر إلا عن تقلص نفوذ المعارضة وانحسار الرقعة الجغرافية التي كانت تسيطر عليها، والتي كانت في 2013 تزيد عن ثلاثة أرباع مساحة الدولة، فيما تقلصت لاحقا بسبب ظهور تنظيم داعش وتمدده في مناطق المعارضة، ومع ذلك بقيت فصائل المعارضة تقاوم قوات النظام وتحقق صمودا وانتصارات عليها، وفي أيلول/سبتمبر 2015 تدخلت روسيا بكل قوتها لمنع سقوط النظام بعد انهيار قوات النظام وعجز المليشيات الإيرانية عن منع سقوطه. واستغل النظام مسار أستانة وما نتج عنه ليبدو بمظهر المنتصر مع سيطرته على مناطق لم يكن يحلم بالسيطرة عليها عسكريا، ولكنه نجح في ذلك بفضل الاتفاقات التي أبرمتها فصائل المعارضة مع روسيا بدعوى أن ذلك من شأنه أن يمهد لحل سياسي شامل ويقطع الطريق على ادعاءات النظام أنه يحارب الإرهاب ويحارب مجموعات مسلحة تمنعه من الرضوخ لحل سياسي تفرضه الإرادة الدولية.
يضاف إلى هذا المسار مسار آخر ابتكرته روسيا وحظي بدعم نسبي عربيا ودوليا وأمميا، وهو مسار سوتشي الذي تم تدشينه نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2018، وتمحور حول بدء حوار سوري سوري لحل الأزمة السياسية، ومع الصعوبة البالغة التي شهدتها ولادة هذا المسار وما دار فيه من “مواقف وطرائف” لا تمت للحوار ولا للسياسة بصلة؛ إلا أنه منح السوريين من كلا المعسكرين كما منح الآخرين فرصة للتعرف إلى مدى الصعوبة “المقاربة للاستحالة” أن يجلس النظام والمعارضة إلى طاولة مفاوضات وصياغة حل مشترك مقبول من الطرفين دون ضغوط دولية، بالذات على النظام الذي يعتبر نفسه مدعوما من حلفاء أقوياء مخلصين، كما يعتبر نفسه بعيد المنال عن المحاسبة القانونية عما ارتكبه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا على مدى أكثر من ثمان سنوات.
وعودا إلى المسار الدولي الذي اشتد عوده بتولي كوفي عنان كمبعوث من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في شباط/فبراير 2012 لمدة ستة أشهر قدم خلالها “خطة سلام” من ست نقاط تقوم على وقف إطلاق النار وعملية انتقال سياسي وانتخابات جديدة، ثم مجيء الأخضر الإبراهيمي ونجاحه في تنظيم أول مفاوضات مباشرة بين النظام والمعارضة في كانون الثاني/يناير 2014 برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والأمم المتحدة، دون أن تسفر عن شيء، ليستقيل في أيار/مايو من نفس العام، ويأتي الإيطالي استيفان دي ميستورا ويقضي أربع سنوات وأربعة أشهر في عقد عشرات الاجتماعات في جنيف وفيينا استطاع خلالها تفكيك الأزمة إلى ملفات “سلال” يحل كل منها على حدة ووضع 12 مبدءا سياسيا للحل قبل أن يستقيل في تشرين الأول/أكتوبر 2018 لـ”أسباب شخصية” ويعيَّن مبعوث أممي جديد هو النرويجي “غير بيدرسون” مطلع العام الجاري 2019.
ومنذ تسلم بيدرسون مهمته الأممية وعد بتحقيق اختراق في عملية الحل السياسي عبر “إجراءات بناء ثقة وحوار وطني ومصالحة حقيقية على قاعدة تحقيق العدالة وحل قضايا المعتقلين والمفقودين والمخطوفين، والعمل على إرساء نظام ديمقراطي بإكمال تشكيل اللجنة الدستورية وشروعها بمهامها، وتطبيق القرارات الدولية المتعلقة بسوريا، والحد من تشتيت الجهود الدولية في مسارات جانبية، والتركيز على العمل مع المجتمع المدني السوري”. إلا أن وعود بيدرسون وبرنامجه يواجهان “النصائح العشر” التي يقدمها النظام لكل مبعوث أممي، والتي تتمحور حول أن الحل الذي سيوافق عليه هو الحل الذي تعترف فيه المعارضة بالهزيمة وترضخ لشروطه باعتباره المنتصر وفق اتفاقات “مصالحة” و”تسوية”، وما يمنحه لها من تنازلات، وهي تنازلات لا تتجاوز في حدها الأقصى حد “الصفر” من المطالب التي نادت بها ثورة الشعب السوري وتبنّتها المعارضة السياسية والعسكرية وعملت عليها على مدى سنوات، ودفع الشعب لأجلها أثمانا باهظة من أرواح أبنائه وثروات بلاده.
ولكن بيدرسون الذي يبدو، كما بدا سلفه، متفائلا بإمكانية الوصول لحل ما للأزمة السورية عبر اعتماده مبدأ التفكيك للمعضلة، والحل خطوة خطوة، أو ما يمكن تسميته حلول “قطاعي” تمهيدا وبناءا لحل “جملة” شامل، لا تبدو مهمته “الأممية” سهلة إن لم تعضدها ضغوط دولية على النظام وحلفائه، واقتناع هؤلاء الحلفاء أن الوقت حان لرفع الغطاء عن هذا النظام الذي يتذرع بالقوة والسيطرة المزعومة في مقابل هزيمة المعارضة، وإجباره على الرضوخ لحل ينهي مأساة ملايين السوريين في الداخل والخارج، ويعيد بناء دولة تلمّ وتضمّ جميع أبنائها وفق نظام تشاركي لا يقصي أي مكوّن أو فريق مهما بلغ ضعفه، ولا يسمح لأي مكوّن أو فريق مهما بلغت قوته أن يستأثر بالبلاد وحكمها وقرارها.
عبدالرحمن ربوع