قراءة في رواية طالب إبراهيم “لاجئ من أربيل إلى أمستردام”

0

تدفعنا مشاعر مختلطة لقراءة سيل جارف من قصص وحكايات عن سوريين غُرِسوا وزُرِعوا تحت بقايا مدن وجدران، وآخرين مفقودين أو محاصرين ضاوين، وآخرين انتهوا إلى خيام أو لم ينتهوا بعد إلى مستقر، ضاقت بهم الأرض فيما السماء لم.

رواية طالب إبراهيم “لاجئ من أربيل إلى أمستردام” قصة إنسانية جديدة يقرؤها السوريون اليوم باحثين عن شخص يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قد يصادفونه في ثناياها فيطلعون على ما قاساه ورفض البوح لهم به، أو ذكره لهم باقتضاب في زحمة سرد ما عاناه من آلام وخيبات أو عجز عن ذلك للأبد ليرحل وترحل قصته معه.

الكاتب والإعلامي السوري طالب إبراهيم

الكاتب والإعلامي السوري طالب إبراهيم

وبقدر ما هي رواية مسبوكة مترابطة فإنها أيضاً سير ذاتية لغير كاتبها ولغير بطلها الرئيسي أيضا. صاغها واحد من أكثر الناس معايشة للاجئين منذ سنين، سنين سبقت التغريبة السورية المتواصلة منذ ست سنين عجاف ودخلت في السابعة دون أن تخف فواجعها أو تجف دماؤها ودموعها. وهي قاموس حي لمصطلحات اللجوء وحيوات اللاجئين التي ملأت أسماعنا وأسماع العالم منذ اختبر السوريون تجارب زوارق الموت الخائضة عباب المتوسط وإيجة بحثا عن شاطئ إيطالي أو يوناني يمكن الوصول إليه أو يستحيل، أو بحثا عن بارجة أو طوافة إنقاذ تأتي أحياناً وأحياناً لا.

وتبدو رواية طالب إبراهيم حلقة في سلسلة من “أدب اللجوء السوري” الذي بدأ يتبلور في نسق “الآداب السورية” الحديثة. كـ”طريق الآلام” لعبدالله مكسور و”لاشيء غير الدخان” لسيروان قجو و”ياقوت” لمريم مشتاوي.. سلسلة حلقاتها تبدو متفاوتة متباعدة ولكنها جميعا مشغولة بهمّ اللجوء وأسبابه وأجوائه وطرائقه ومصائره. وإن كانت رواية “لاجئ من أربيل إلى أمستردام” حكت لنا عن “صباح الميدي” الذي رافقه لبرهة “سوري” واحد يشبه كثيراً “الكاتب”؛ فمن أقدر من سوري كاتب وإعلامي في قناة “معكم” كطالب إبراهيم يمكن أن يروي لنا حكاية لاجئ ويثري مكتبة آداب السوريين بنصٍ يعيش في وجدانهم.

“طريق الآلام” لعبدالله مكسور حكت رحلة الخروج الجماعي والتغريبة السورية عبر دروب التيه، والنجاح والإخفاق في تخطي أفخاخ الموت المزروعة على طول الطريق من براميل ومعتقلات وعصابات أقامت إمارات سوداء لا تقل سوءاً عن امبراطورية الأسد المخضبة بالدماء، والنجاة من تجار البشر وعصابات الرقيق والتهريب، ولم تكفّ عن طرح التساؤل العبثي عن الحكمة وراء كل ما جرى ويجري في سوريا للسوريين.

و”ياقوت” لمريم مشتاوي المفعمة بالمأساوية والميتافيزيقيا عن لاجئين فشلوا في تخطي حاجز البحر الذي يفرض دائما ضريبة هي الأغلى، ضريبة نسبية من الأرواح المرهقة على كل حمولة تنقلها مراكب الموت لإشباع نهم أعشاب البحر من الأجساد الغضة والأحلام الوردية. ولا تمنعنا لبنانية مشتاوي أن نجنس ياقوتتها بجنسية أبطالها. فمن يستطيع التفريق بين اللبناني والسوري إذا غسل عن فكره وضميره عار أمراء الطوائف وأدران الطائفية؟.

أما “لاشيء غير الدخان” لسيروان قجو فتتمحور حول معاناة الكرد السوريين من الدكتاتورية الأسدية وقمع البعثية الشوفينية وداء الأنا وإنكار الآخر وجوداً وحقوقاً في عصر “الأسد أو نحرق البلد”، وبطلها كاوا.. “كاوا” الرمز الكردي لشاب صار بطلاً في زمن النمرود قامع الكرد الأكبر والمنكل بهم الأشهر، كما فرعون بني إسرائيل. كاوا الذي أصبحت ناره الموقدة “حلم الحرية” المشتعل منذ آلاف السنين في نفس كل كردي أبيّ يتوق للحرية وبناء وطن يستحقه أبناء الميديين.

جاءت رواية “لاجئ من أربيل إلى أمستردام” كمجموعة قصص قصيرة رشيقة متوالية يتسارع أحياناً سردُها ويتباطأ أخرى، ليس بحسب مزاج صباح (بطل الرواية)؛ بل تبعا للأجواء والظروف التي يُغرقنا طالب إبراهيم في تفاصيلها المقتضبة المفتقدة دائما لـ”شعاع شمس”. ورغم كل ما فيها من قبح الواقع وتلوّثه إلا أنها لا تكف بحثاً عن الحب والجمال وعن “أسئلة” وأمنيات مشروعة يضنّ بها الزمان على مُهج أرهقتها الآلام والآمال. مع ربط لكل تلك القصص القصيرة، وأحياناً الأقصوصات، بإحالات تسنح لذهن “صباح” المتقد حيال كل من يعبر به من شخوص أو يلمّ به من حالات وأحوال أو يشمّه من روائح جذبته حيناً أو سببت له اشمئزازاً أو إعياءاً أحياناً.

رواية لاجئ من أربيل إلى أمستردام

رواية لاجئ من أربيل إلى أمستردام

عالم الرواية وفضاؤها يبدو سرمدياً دائرياً حيناً، وحيناً مؤقتاً زكزاكاً، يعايشهما “صباح” وحيداً غالباً أو بصحبة آخرين أحياناً، متأملاً راغباً متصابياً، تتخلله نوبات همّة أو رغبة في تجميل واقع مزرٍ أو إخفاء عار الفشل. كما تتخلله قناعة مؤقتة بغرفة نظيفة وحمام نظيف وطبق بيض مقلي مع لبن عوضاً عن قلعة ملأى بالشقراوات وما يلزم نعيمهن من ملحقات وكماليات. كل ذلك دون تفويت فرص تذكر ماضٍ جميل بريء مقارَناً بواقع معاشٍ لا يصطبغ بأي لون ولا يؤدي إلا إلى مزيد من التيه والمجهول. وكأن الرواية “فصل في الحجيم” لم يكتبه آرثر رامبو عن كل أولئك “الأناس الناشطين الألاعيب تحركهم نزوات مسخاء”.

صباح خليل الذي لم ير أي صباح جميل على مدار مئات الصباحات التي استيقظها في أرض بلاستيكية دفع ثمن الوصول إليها ثروة طائلة لا شيء يقبر حزنه غير المشي حد الإعياء ثم ارتماء ونوم مصحوب ببكاء على سرير من طابقين أيًّا كانت رائحته. إنها “مأساة” تنطبق بحذافيرها على “تراجيديا” جون ميلتون، تلك التراجيديا ذات الجلال التي تكتسح أمامها كل شيء، حتى وهي مسجّاة في نعشها الملكي. وهي “دراما” تماما كما عبر عنها وليم أرتشر: واحد منا مقذوفٌ به حيًّا فوق مسرح ليصارع الأقدار ضد القانون الاجتماعي، ضد واحد من بني جنسه، ضد نفسه إذا لزم الأمر، ضد أطماع أولئك المحيطين وضد رغباتهم وأهدافهم وحماقاتهم وأحقادهم.

وصباح خليل أيضا هو ذاك البطل الغارق بالفاجعة الذي تحدث عنه فوزي فهمي أنه لا يموت كما في الأساطير والملاحم والروايات الكلاسيكية، لكن حسْبُه كمُّ الإخفاق الهائل أمام القوى الرهيبة التي تعانده وتقتله معنوياً. ولا تقتصر المأساة على الأشخاص وحركاتهم وسكناتهم في رواية طالب إبراهيم؛ بل تطال حتى المناظر والمناخات السائدة من أول الرواية لآخرها رغم كل محاولات صباح الحثيثة والمضنية لغسلها وتطهيرها وتعطيرها دون أن يجدي معها صابون أو كلور أو عطر.

ولا تخلو الرواية المؤلمة حد الإمتاع من ومضات من الطرافة والإضحاك المتسقَين مع رؤية فرويد أنهما تعبير عن حاجات مكبوتة تحول القوانين دون الإفصاح عنها أو تحقيقها. وهي حاجات لم يكفّ “صباح خليل” في طول الرواية وعرضها عن أن تكون هاجسه الدائم ضمن سياق كل ما ألمّ به من انكسارات متتالية لامتناهية وسط مناخ مكفهر ملبد بالقتامة مفعم بكل الروائح المثيرة للاشمئزاز والقرف.

هذه الومضات المضحكة أو المثيرة للابتسام على أقل تقدير، والتي وردت في سياقات مضبوطة تماماً على مقاسها جاءت تماماً كما المقولة التأبينية التي رواها هنري برجسون عن فيلسوف ألماني “كان رحمه الله فاضلاً وسميناً”. وبحسب كانط وديكارت يلعب الضحك دوراً في إحداث اتزان عاطفي ونفسي، اتزان أراده لنا طالب إبراهيم إشفاقاً منه على حالنا نحن المملوئين ألماً وحزناً وغير المستعدين أو المؤهلين لتلقي المزيد.

“ثيمة” أساسية تفوح رائحتها من صفحات الرواية، حتى عن بعد، هي البحث عن أنثى، الأنثى التي جسدها طالب إبراهيم كوطنٍ يبحث عنه البطل، وملجئٍ يأوي إليه أو عرشٍ يعتليه. فـ”الأنثى لجوء”، واللجوء هروب من وطن مسروق وشروع بسرقة وطن عبر اختطاف إحدى حورياته على حصان أبيض والخلوة بها في “شلال أشجار يُخفي تعاريج وتفاصيل الحب ويُغرق في قدرته آثار العاشقين”. ولكن يضيق الواقع لدرجة العجز عن العثور حتى عن أكمة ذات شجيرات، وتفشل كل اختبارات “فقد العذرية” مع نجاح مؤقت في الاحتفاظ بسويّة آدميّة “جنسية”.

“أم صباح” التي هي أربيل نفسها التي غادرها صباح، أمه التي تذكّر بعد عامين أنه لم يكلمها قط منذ ودّعها، مع أنها خطرت على باله كلما تذكر أربيل وكردستان، ليكتشف لاحقاً أنه تناساها في زحمة البحث عن بديلات لكل إناث كردستان من ذوات الشعر المجدول المكنون، بديلات ذوات شعر مطلوق له مغامرات مع الريح والمطر وأَسرّة الغرباء. واكتشافه هذا لم يأته كما أتى نيوتن المسترخي تحت شجرة مثقلة بالتفاح، بل أتاه صدمة إثر أخرى في عزّ قلقه وترقبه.

صدمات لم تبدأ من “السلطان بيلي” حيث قبَر أشيائه مجبَراً من “شورو” الذي أبدله عنها كيس بسكويت وآخر لقضاء الحاجة. مرورا بصدمة “اللكمة” التي تلقاها ولم يتلق اعتذاراً عنها في لايبزيغ. “لايبزيغ” أول محطة بعد الخروج من الصندوق المعدني الذي دُفن فيه مؤقتاً مع خمسة آخرين. وصدمة “سيسكا” المازوشية التي باغتته بأداة لهوها البلاستيكية. ثم صدمة “حنا” خادم “الخالق الآخر” ومرافقته الجميلة المبتسمة “يوليا”.. صدمات وصدمات دفعته ليبصق في وجه نفسه، ويغرق نفسه متعمداً في أنهار النشادر الهادرة في كامبات عزلة قسرية لا فكاك من أسوارها إلا إلى المجهول.

قرأها: عبد الرحمن ربوع

 

مشاركة المقال !

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.