عمر الجباعي يُكثّف حلم الشعب السوري في عشرين دقيقة

0

أخبار السوريين: “سوف تضيء”، “لن تضيء”، “سوف تضيء”، “لن تضيء” ويرتفع صوت المشاجرة لا يوقفه قبل أن يتحوّل إلى صراع بين زوجين شابين سوى أنّ الضوء يأتي حقاً، ويغمرهما معاً.

على خشبة مسرح “بابل” في الحمرا ببيروت قدّم المخرج السوري الشاب عمر الجباعي (1982) عرضه المسرحي الثالث بعنوان “أوكنو” أيام 6-7- 8 آب/أغسطس 2015، عن نص الكاتب البولوني إيرنيوش إيردنسكي، إعداد وإخراج الجباعي، وبدعم من مؤسّسة “مواطنون فنانون” ومؤسّسة “اتجاهات” و”ثقافة مستقلة”، إذ سبق لجباعي أنّ قدّم عام 2012 في دمشق عرض “الآن/ هنا” عن نص “بينغو” لإدوارد بوند، وقدّم عرضه الثاني “تفصيل صغير” العام الماضي في بيروت عن نص أنتونيو بويرو بييخو المعنون “القصة المزدوجة للدكتور بالمي.

عرض يشبه عمر الجباعي نفسه قبل أيّ شيء آخر، الشاب الساخر بذكاء من الأشياء القبيحة، لا يفوته مثلاً أن يوجّه التحيّة إلى أزمة الكهرباء المستمرّة في بيروت مع ارتفاع درجات الحرارة، فيبدأ العرض بإظلام الصالة لأكثر من خمس دقائق ثمّ تعود، وبعد زمنٍ آخر تعود الصالة فتظلم ليبدأ العرض، ويثير ابتسامة الجمهور.

بالروحيّة ذاتها يفاجئ الجباعي جمهوره بعرض لا تتجاوز مدته الدقائق العشرين، أوّل أربع دقائق منها عارية من اللغة وضجيج المفردات. رجل ينظر بتشوّق وترقّب إلى أفقٍ غير مرئيّ لنا، وزوجة غاضبة تحاول جهدها الاقتراب منه، اللعب معه، إغواءه أو رسم ابتسامة على وجهه، تحاول فقط شدّ انتباهه إليها وهي تشغل نفسها بأعمال المنزل، تغضب منه حتى تنفجر وتصرخ بوجهه: “صرلنا أسبوع على هالحالة، بتجي من شغلك بتقعد بالصالون وبتصفن. بتقعد بهالعتمة وبتصفن. حتى بنص الليل بتقوم من التخت وبتجي لهون تصفن. بشو صافن؟” يجيبها بشرود وبعد إلحاح منها: ” من أسبوع شفت عود كبريت، ضوا عتمة هديك الشقة وطفا. ناطر شوف شعلة عود الكبريت عم تضوي العتمة مرة تانية”.

تكثيف في المرارة والأمل:

عشرون دقيقة كثّف فيها الجباعي ألماً عميقاً وصراعاً طويلاً عرفته البشريّة مع رفض الجموع لكلّ ما هو غريب، لكن العرض يطرح بصوت عمر الساخر سؤاله حول الغرابة، فما هو الغريب؟ أن يجلس رجل في صالون منزله مراقباً فراغاً أو مترقباً ضوءاً، هو غرابة أم أنّ البشريّة بمُعظمها المليونيّة تذهب كلّ يوم بسحريّة ميكانيكيّة إلى العمل في تمام السابعة وتعود في الخامسة؟ أليس كل ما هو خارج عن ضبط القواعد الجمعيّة غريباً بمعنى الشذوذ؟ جنوناً، ومرفوضاً؟! ألم تهدّد الكنيسة ذات يوم العالم الإيطالي جاليليو جاليلي 1564- 1642 بالموت وتتهمه بالهرطقة، لكونه ناقض عملياً نظرية “أرسطو” حول مركزيّة الأرض ودوران الشمس حولها، آنذاك التزم جاليلي بالعقوبات التي فرضتها عليه محاكم التفتيش تجنّباً للموت، لكنه قبل التزام الصمت صرخ فيهم: “ولكنها تدور”، في إشارة لدوران الأرض حول الشمس.

لا يهتم الزوج الثلاثيني بغضب زوجته، بمعاناتها لابتعاده عنها، باتهاماتها له بالجنون، مسكوناً بإيمان كُلّي بأنّ الشعلة ستضيء مرّة أخرى. حتى أنّها حين تصرخ به كالكثير من الشخصيات التي تعشق الإغراق في الدراما بلا مُبرّر ونعيش معها كلّ يوم، بأنّ حياتها قد انتهت لاهماله لها ستة أيام، يكتفي الزوج بأن ينصحها ببساطة بصنع فنجان من القهوة.

تدفعنا ثقة الزوج بأنّ عود كبريت آخر سيضيء لأن نسأل أنفسنا هل أضاءت الشعلة فعلاً أم أنّ الإيمان العميق يمكن أن يُضيء الشعلة. شعلة عود كبير تختصر كل أمالنا من حلم صغير بكسر روتين الحياة اليومي البليد، إلى حلم التغيّر الكبير الذي غنّى له الفنان السوري سميح شقير ذات يوم مُهديّاً النداء إلى الفنان الكردي “شيفان” بالقول: “غني يا شيفان غني، للذي سوف يجيء، وأطلق الشعلة في البعيد الجريء، نحن في اللهفات سواء، ولنا نفس الطريق، كلنا نشعلها، حتى تجيء، فرحة كبرى ويوما رائعا للاحتفال، فوق هامات الجبال”.

مسرح الحجرة: الفضاء أوسع من المكان

تضيّق الستائر التي يسدلها سينوغراف العرض كرم أبو عيّاش وسّع خشبة المسرح، مكتفيّاً لا بكشف صالون المنزل أيّاً كانت مساحته، بل هي مساحة كرسي بجانبه منضدة صغيرة يتحرك حولهما، فوقهما، خلفهما وأمامهما بطلا العرض بإكسسوارهما البسيط من ملابس وكأس قهوة وعلبة سجائر ولمبادير صغير، ويزداد ثقل التفاصيل الصغيرة التي تحيط بنا، نضحك ونحن نواجه كم أننا مشغولون بهذه التفاصيل التي تملأ فراغ حيواتنا الطويل. تبديل أغطية المقاعد، التقاط أعواد الثقاب المُستخدمة، وسواه.

هي حجرة صغيرة مسرح الحدث، لكن المفارقة الجميلة التي تغني العرض أنّ مكان الفعل في بُنيّة النص الدراميّة غير حاضر على الخشبة، هو في المكان المُقابل، غير المرئّي لنا نحن الجمهور. هكذا تغدو الخشبة مُنعكساً للفعل، مسرحاً لتجلّي الضوء، والزوجان جمهور متفرجٌ على الفعل.

يطلب الزوج من زوجته أن تطفئ ضوء اللمبادير الصغير لأنّه لا يريد لهم أن يروه، نتساءل كجمهور من هم أولئك الذين لا يُريد أن يروه؟! في آخر العرض تطلب الزوجة وقد غمرها الضوء من زوجها أن يُطفئ الضوء كي لا يروها وهي تترقب عود ثقاب آخر، شعلة جديدة. في الواقع إننا نحن من لا يرغب الزوجان بأن نلحظ مراقبتهم لنا. نحن الأفراد والمجتمع، نحن القادرون على إشعال ضوء وإيقاد عود ثقاب يكسر العتمة، كلّ منّا قادر على القيام بالفعل، إن امتلكنا الإيمان الكافي بهذا. لسنا نحن الجمهور بل نحن من نُراقَبْ في انتظار أن يُشعل أحدنا ضوءاً يكسر عتمة المكان. يارا بدر. القدس العربي.

مشاركة المقال !

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.